أحمد المسلماني|يكتب : إهدار الذكاء العام أخطر من إهدار المال العام
فى تقديرى.. هذه هى المعادلة العملاقة والبسيطة لصناعة الحضارة المعاصرة: فيزياء + رياضيات = اقتصاد + سلاح = حضارة.
حين تحدثتُ مؤخراً عن تراجع مصر فى «خريطة الذكاء فى العالم».. كان ذلك صادماً للكثيرين. تبدأ الصدمة من كتاب «آماندا ريبلى»، الذى صدر حديثاً بعنوان «أذكى الأطفال فى العالم»، والذى لم يتضمن مصر ضمن الدول الثلاثين الأولى فى العالم. ثم توالت الصدمة مع مقالٍ بعنوان «الدول الـ(25) صاحبة القدرات العقلية الأكبر فى العالم».. الذى تضمّن، حسبما ترجم ونشر موقع «ساسة بوست»، دولة إسلامية وحيدة هى تركيا.
وقد جاءت الدول الـ(25) كالتالى: 1- اليابان، 2- أمريكا، 3- الصين، 4 – كوريا الجنوبية، 5- تايوان، 6- ألمانيا، 7- فرنسا، 8- فيتنام، 9- روسيا، 10- بريطانيا، 11- بولندا، 12- كندا، 13- إيطاليا، 14- أستراليا، 15- سنغافورة، 16- تركيا، 17- هونج كونج، 18- هولندا، 19- بلجيكا، 20- إسبانيا، 21- سويسرا، 22- التشيك، 23- تايلاند، 24- نيوزيلاندا، 25- فنلندا.
إن ترتيب التعليم فى العالم فى عام 2015 لم يتضمن مصر ضمن أفضل (70) دولة.. وقد شكّل هذا الترتيب صدمةً أكبر لبلد كان منارة التعليم والبحث العلمى.. وكانت مدارسه وجامعاته تفوق مثيلاتها فى بعض بلدان أوروبا.
وما يزيد الصدمةَ قوة وألماً.. هو تصدر دول آسيوية المراكز الأولى فى العالم.. فى حين أنها، حسب دراسة لجامعة بوسطن، كانت بلا نظم تعليمية فى زمن حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك.
ثمّة اعتقاد سائد أن الطفل المصرى هو أذكى طفل فى العالم.. لم يعد ذلك دقيقاً فى الوقت الحالى.. ربما كان الطفل المصرى هو الأذكى فى العالم حتى يدخل التعليم.. فيخرج من المستوى الرفيع فى البدايات إلى المستوى الردىء فى النهايات.. ذلك أن الترتيب السيئ لنظام التعليم هو بلا شك أدنى من ترتيب الذكاء الفطرى للتلاميذ المصريين.. وكأننا إزاء معادلة بغيضة واضحة: يولد الطفل المصرى بالغ الذكاء حتى يدخل المدرسة!
إن ذكاء الأطفال المصريين تحوّل إلى «شقاوة» و«شغب» و«بلاغة» و«خفّة ظل» وتفوق فى «وسائل التسلية الإلكترونية» على نحو مبهر.. لكن ذلك كله لا يصبُّ فى صالح الدولة والمجتمع.
لم تسفر «الشقاوة» و«الذكاء الفطرى» للتلاميذ المصريين عن تفوق فى ترتيب الذكاء أو تميز فى ترتيب مستوى التعليم.. ما حدث هو: «إهدار الذكاء العام».. وهو أخطر كثيراً كثيراً من «إهدار المال العام».
إن واحداً من أفضل التفسيرات الأمريكية لبقاء أمريكا الأقوى بلا منافس رغم تراجع ترتيبها فى مستويات الذكاء والتعليم هو أن المعيار الأهم هو: ليس فقط عدد الأذكياء ولا ترتيب الذكاء العالمى.. بل هو «ماذا يفعل الأذكياء فى هذا البلد؟». يقول الأمريكيون إن أمريكا هى الأقوى.. لأن الجزء الذكى -ببساطة- هو الذى يدير.. وهو الذى يخطِّط ويقرِّر.
ما حدث فى مصر عبر العقود الماضية هو المحنتان معاً: تراجع مستوى الذكاء، وإزاحة الأذكياء قدر الإمكان من المؤسسات والهيئات والشركات والكثير من مكونات البلاد.
إن قوة أمريكا ليست فى حكم الأغلبية الديمقراطية، ولكنها فى حكم الأقلية الذكية. ومن حسن حظ أى بلد فى العالم أن يدير الأذكياء الاقتصاد والسياسات العامة فى بلادهم، ومن سوء حظ أى بلد أن يتم رمىْ الأقلية الذكية فى غياهب البيروقراطية، بينما يتولّى «تحالف عديمى الموهبة» ملء الفراغ.
تبذل بلادنا جهداً كبيراً فى الوقت الحالى.. للحدّ من «تحالف عديمى الموهبة».. وإتاحة مساحة أكبر للأذكياء للاضطلاع بدورهم.. لكن «التمكين» الذى كان للأغبياء.. هو تمكينٌ عميقٌ وعنيفٌ.
يحتاج الإصلاح الحضارى الذى يمكنه أن يطيح بذلك التاريخ الردىء من سطوْة الغباء.. وأن يفسح المجال فى كافة المؤسسات.. إلى حكم «الأقلية الذكية».
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر
المصدر