أحوال نساء مصر في القرن التاسع عشر: استعباد وأعمال مخلة بالآداب وحرب شوارع
كتاب «نساء مصر في القرن التاسع عشر» للمؤلفة جوديث تاكر يمثل وثيقة فى التاريخ الاجتماعي لمصر بالقرن التاسع عشر، فقد قامت المؤلفة بتحليل أوضاع نساء مصر فى ذلك القرن ضمن سياق الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، والدراسة تنطلق من فرضية مفادها تعرّض النساء للتهميش وما يتبعه من إقصاء واستبعاد من الدراسات التاريخية، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب كمثال رائد على كتابة تاريخ النساء.
وفيما يلي نستعرض أحوال نساء مصر، وفقًا لما جاء في كتاب «نساء مصر في القرن التاسع عشر»:
ظل المجتمع المصرى فى القرن التاسع عشر يقوم على فكرة المجتمع المصدر زراعيًا، فكان الاهتمام بالزراعة وتثبيت المفهوم بأن مصر بلد زراعي، من أكبر الأخطار التى واجهت التحول الاجتماعى وارتباط المجتمع بالنظام العالمى باعتباره مجتمعًا صناعيًا، ولذلك بقي الريف مؤسسًا على نمط من الإنتاج الزراعى، ظلت المرأة فيه جزءًا أساسيًا من حركة الحياة باعتبارها هى المحرك الرئيسى للأسرة الريفية داخل البيت، وفى الحقل، وساعد النظام آنذاك على بقاء المرأة وحدة منتجة ومحركة للأسرة، حيث كانت قطع الأراضى العائلية الصغيرة هى القاعدة.
وقد كانت عمالة النساء والأطفال بالسخرة أداة من أدوات الإنتاج فى عهد الحملة الفرنسية بشكل ظاهر، وكان تجنيد الأسرة بكاملها يتم أحيانًا فى شق الترع والقنوات، وكان عمل النساء والبنات بشكل عام من أسباب ضمان حياة الأسرة.
لم يقتصر دور النساء فى القرن التاسع عشر على عملها بالأرض الزراعية، ولكن تعدى ذلك إلى الحرف الصناعية وإدارة الأملاك وحيازتها، كما أن أدوات الإنتاج كانت ملكًا خاصًا لهن، وطمحت المرأة لأدوار تفوق دورها فى إعالة الأسرة بالمجتمع الزراعى، ولأن عملية التبادل التجارى كانت صغيرة، فما لبثت أن توارت بفعل ربط مصر بالمشاريع الزراعية، فقد قامت بعض الحرف الصغيرة فى المدن وضواحيها، مما أدى إلى خلق ربط بين المرأة ودورها الحرفى والخدمى.
وقد ظهرت النساء فى المدينة فى بعض الأعمال، مثل التجارة والبيع، وكان عدد كبير من الباعة الجائلين من النساء، وكذلك مهنة الدلّالة التي شهدتها مدن إقليمية إلى جانب القاهرة، وقامت المرأة أيضًا بدور الوسيط التجاري، واستثمرت النساء أموالهن فى التجارة البحرية للبهارات، وفى تجارة قوافل الرقيق، كما لعبن دورًا أساسيًا فى بعض الصناعات المصرية آنذاك.
وشهد عهد محمد على دخول مصر فى الصناعات المنزلية وأصبحت النساء موظفات فى الحكومة بينما كُنّ فى الماضى يمارسن الغزل والنسيج من أجل الاستهلاك العائلى، كما كانت المرأة تعمل فى مجال الخدمة لأسباب كثيرة تتصل باللياقة وحسن التصرف، وأخذت الخدمة تتسع رغم ما يشوبها من سوء سمعة، وعانت خادمات المنازل معاناة كبيرة بسبب غياب القواعد المنظمة لذلك.
فى بواكير القرن التاسع عشر كان الوجود الاجتماعى للنساء، خاصة فى المناطق الحضرية، يتم داخل وعبر عدد من المؤسسات التقليدية، وعلى رأسها الأسرة، وكان الجيران أو أعضاء المهنة الواحدة أو أبناء المجموعات العرفية أو الطوائف الدينية أيضًا منظمين داخل مجموعات رسمية وغير رسمية تتداخل مع الروابط العائلية.
وشهد القرن التاسع عشر نمو طوائف من العاهرات والمغيبات والراقصات وغيرهن، وسجلت هذه الطوائف وحدات اجتماعية يتصل معظمها برغبة البعض فى وجودها، أو تحصيل الضرائب، وغير ذلك من الأسباب التجارية أو الاقتصادية بشكل عام، كما كانت أنشطة الطوائف مثل الطرق الصوفية متاحة للنساء، كزيارة المقابر، وحلقات الذكر، والاحتفالات الدينية والشعبية.
ولم يخلُ عصر من العصور فى المجتمع العربى من صورة قمعية للمرأة تدل فى مجملها على عنصرية ظاهرة ومصالح شخصية للرجل، تتصل أيضًا بالمصالح السياسية والاجتماعية المزعومة.
وهناك أدوار غير مشرفة يقدمها المجتمع للمرأة كبديل للتنافس الطبيعى بينها وبين الرجل، رغم أن المرأة فى مصر هى التى تقوم بعبء الأسرة فى التربية والإعالة وتحمّل المسؤولية الأخلاقية، إلا أن المجتمع يُظهر المرأة في صورة أداة من الأدوات يستغلها الرجل فيما يريد من أعمال، أو يستغلها فى تحقيق مكاسب مادية ذاتية.
وترى جوديث تاكر أن سجلات المحاكم تمثل مصدرًا معاصرًا قيّمًا، حيث إن مصادر القضايا ومجموعات الفتاوى تقدم معلومات عن أملاك وعمل النساء، وعلاقاتهن الأسرية، وصورة عامة معبرة عن وضع من الضغوط والتغير.
وذكرت أن النساء من الخلفيات الاجتماعية حملن شؤونهنّ إلى المحكمة، ونادرًا ما كانت نساء النخبة يظهرن بصفتهن الشخصية في المحكمة، بل فضلن ترك شؤونهن في أيدي الوكيل، أما الفلاحات ونساء الطبقة الدنيا الحضرية فعادة ما كُنّ يعرضن قضاياهن شخصيًّا أمام القاضي.
وأوضحت المؤلفة عدة أسباب أدت إلى قمع المرأة فى المجتمع المصري القديم، وعلى سبيل المثال حالة القمع ومقاومته في القرن التاسع عشر:
1- نظام العمل بالسخرة أدى إلى تدخل الدولة في الإنتاج، مما أدى إلى قهر المرأة، وبالتالى تصاعدت حدة المقاومة بأشكال مختلفة، وإن ظهرت بعض هذه الأشكال فى صورة مجرّمة.
2- تزايدت حالات الاحتجاج والهجوم، وبالذات فى الحالة الاستعمارية من قبل المجتمع بشكل لافت، وشاركت المرأة بأدوار أساسية في هذه الاحتجاجات.
3- ساعد ذلك الدولة آنذاك على تطوير وسائل القمع التي لم تشكل إلا سببًا من أسباب زيادة الاحتجاج.
4- شاركت النساء فى هذه الاحتجاجات التى تمثل رد فعل للقمع، وظهر ذلك فى شكل سلوك غير سوي، مثل انخراط الكثير من النساء فى الدعارة، واحتراف السرقة.. أما النساء المتزوجات فإن هذا الاحتجاج ظهر لديهن فى شكل هجر للأطفال.
5- عبّرت الدولة عن سلطتها المطلقة ونظامها الاستعمارى، وبالأخص فى عهد الخديو إسماعيل، مما أدى إلى مشاركة المرأة فى حركات التمرد الشعبى فى الريف والحضر.
6- لعبت النساء دورًا فى حرب الشوارع بقتال جنود المماليك سنة 1806، وبالأخص نساء الطبقة الاجتماعية الدنيا، واتخذت المقاومة عدة أشكال، منها الاحتجاج فى صورته العادية، والهجوم على الجنود والمسؤولين الذين يمثلون الحكومة.
8- كان التجنيد والسخرة من أهم أسباب هذا التمرد.
9- فى يونيو سنة 1834، قامت الدولة بتجريم كل أعمال الدعارة والرقص، ورحّلت العاهرات إلى صعيد مصر كنوع من العقاب.
10- فى أحيان كثيرة كانت أعمال الدعارة تتمتع بحماية الامتيازات الأجنبية، وتحولت مدن، مثل الإسكندرية وبورسعيد، لمراكز لتجارة الرقيق الأبيض، وخاصة النساء القادمات من أوروبا.
ولا نقول، وفقًا للمؤلفة جوديث تاكر، إن المجتمع المعاصر قد تخلص من هذه الآليات التى يعامل بها المرأة، وإنما أصبحت أكثر تجذرًا، وإن اختلفت أشكال هذه الأسباب ودوافع مسبباتها، وأصبح تمرد المرأة أيضًا متحورًا مع المتغيرات المجتمعية، حتى يمكن القول إن المجتمع الآن وعلاقاته بالمرأة يعيش حياتين مختلفتين، هما:
– الحياة الظاهرة، وفيها تبدو الأشكال الاجتماعية والنظام القانونى هي الغالبة.
– الحياة السرية ويتم فيها ارتكاب أبشع أنواع العنصرية ضد المرأة، ومن كل طوائف المجتمع، وبالأخص تلك التى تمارس نوعًا من الإرهاب الفكري باسم الدين، برغم أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها شيء مما يدّعون.
المصدر