ابراهيم عيسى |يكتب: أعطيتُ ظهرى للبكاء
التفتُّ بنصف وجه ونصف عين إليها.. كانت قد أسندت ظهرها إلى الأريكة وهى تُخفى وجهها فى حِجرها، وتقول سلامًا..
اختنقتْ الكلمة تحت ضغط الدمعة الصاعدة إلى العين، فصمدتُ أمام البكاء رغم اهتزاز الدمعة الصغيرة فوق الجفن المرتعش.. تعمَّدتُ أن لا أنظر إلى المنور حتى لا أراها شاحبةً واقفة فى النافذة المطلة.
كانت الحقيبة التى تحمل ملابسها وحاجيات الشتاء المقبل ثقيلة، بانت وطأتها فى خطوط حمراء حول أصابعى..
كان السلم مظلمًا والشقوق تملأ سقفه..
أيدوم لنا البيت المَرِح؟ أنتخاصم فيه ونصطلح؟!
اشتدت قبضة الحزن تعصر قلبى المحدود بالقفص الهشّ.. ما زال القلب واهنًا، ينشطر حينما يفترق عن الأخت غير الوحيدة.
– خذى بالك من نفسك.
أيدوم لنا البيت المرح؟ أنتخاصم فيه ونصطلح؟!
النهر.
انقشعت عتمة بئر السلم فبانَ الضوء المغربى الواهن فى الشارع..
خطفتُ درجات السلم الأولى، مناديًا بصوت ردده صدى الفراغ الساكن:
– لا تنسى الاتصال يوم الإثنين.
كانت سيارة أجرة تقف منتظرة عند مفترق الطرق..
انشغل السائق فى إشعال تبغه.. بينما انشغلت سيدة فى نشر غسيلها على حبال صفراء..
هدأت الحركة فى الشارع إلا صوت بكاء طفل فى نافذة.. اتجهتُ نحو الترام تاركًا ظهرى للبكاء.
النافذة لا تنفتح ليلاً
1
زحفتْ كفُّه فوق غطاء المائدة. امتدتْ نحو أصابعها البيضاء الرقيقة. اصطدمت كفُّه بكوب الشاى الساخن. سقط الكوب وافترش الشاى الغطاء. كانت النقوش المرسومة على الغطاء تحمل صورة زهرة وأوراق ورد منثورة. مالت كفُّه نحو جزء الغطاء النظيف.. وامتد كفُّها.. تعانقت الأكُفّ.
2
رقد تحت السيارة.. طويلة.. عريضة.. خضراء.. تلفّها خطوط بيضاء.. تلوَّث بنطاله الأزرق.. ويداه العريضتان.. نادى على الصبى أن يأتى بالمفتاح 5 فأتى بالمفتاح 10 .. صرخ فيه.. طلب مفتاح 6 ، أعطاه الصبى مفتاح 8 .. انسحب من أسفل السيارة.. نهض مسرعًا.. ضرب صبيًّا آخر.
3
استيقظ من النوم.. ساعات طويلة أمضاها أسفل الغطاء الثقيل.. نظر نحو الصورة المعلَّقة.. الآية القرآنية.. صورة العائلة.. الكتب الملقاة على الأرض.. المائدة المائلة.. الحفر العميق فى جدار الحجرة.. المفرش المتكوِّر على الأرض البلاطية.. تمعن فى أرغفة متآكلة وبقايا قطعة جبن.. وقاع كوب الشاى الفارغ.
4
نهض متثاقلاً.. مضى نحو النافذة.. فتحها.. أصدرت صوتًا اختلط بضجيج الأسطى يضرب الصبى.. تعلقت نظراته بساعدها النحيف ملتفًّا حول ذراعه ويمضيان فى الشارع المزدحم.