قد يكون من أسباب التدهور الذى تعيشه البلاد ضياع فرصة إصلاح نظام مبارك، من مؤسسات دولة وحزب حاكم، إلى دستور 71، وقوانين سيئة السمعة، وأن وجود حزب حاكم سيئ، ووسيط سياسى محدود الكفاءة، ليس مبرراً لإلغاء السياسة والعمل الحزبى لصالح الحكم الأمنى المباشر دون أى شراكة مجتمعية أو سياسية من أى نوع.
والحقيقة أن مسؤولية فقدان المسار الإصلاحى تتحملها أطراف كثيرة عقب ثورة يناير (الإخوان المسلمون، ومجموعات المراهقة الثورية، وضعف القوى المدنية)، لكن سيظل المسؤول الأول عن ضياع فرص الإصلاح من داخل النظام هو حسنى مبارك نفسه ونظامه الشائخ، الذى رفض كل المبادرات الإصلاحية، وتجاهل دلالات الاحتجاجات الاجتماعية والفئوية المتزايدة، وشن حملات تحريض وتشويه ضد كل من قدم أفكاراً إصلاحية لإخراج البلاد من حالة الجمود والتكلس، وتفادى سيناريو الثورة بكل أخطاره ومشاكله.
ولعل واحدة من أهم هذه المبادرات ما قاله الراحل محمد حسنين هيكل فى عهد مبارك، وفى عز سطوته وهيمنته، حين طرح برؤية استشرافية نادرة فكرة تشكيل «مجلس أمناء الدولة والدستور»، وذلك فى أكتوبر 2009، فاتحاً طريقاً كريماً لخروج مبارك وعائلته من السلطة.
تجاهل مبارك الأمر بالطبع، وشنَّ رجاله وإعلامه واحدة من أسوأ الحملات الإعلامية على الكاتب الكبير، حتى وصفه بعض السفهاء بـ«مجنون برقاش»، وحتى لا ننسى فسأسترجع مع القارئ الكريم بعض ما قيل وقتها حول فرصة الإصلاح التى طرحها هيكل وضيَّعها مبارك.
ولعل البداية كانت فى الحديث اللامع الذى أجراه الأستاذ مجدى الجلاد مع الأستاذ محمد حسنين هيكل فى أكتوبر 2009، والذى طرح فيه الرجل فكرة رئيسية دار حولها جدل واسع هى فكرة «مجلس أمناء الدولة والدستور»، الذى يتكون من ١٢ شخصية عامة، طرح الرجل أسماء سبعة منهم، وطالب بأن يكون تحت إشراف رئيس الجمهورية والقوات المسلحة.
وقد طرح الرجل أسماء مثل: عمرو موسى وعمر سليمان ومنصور حسن وحازم الببلاوى، وجميعهم يمكن وصفهم بـ«إصلاحيين» أو «محترمين» من داخل الحكم وخارجه، بما يعنى أننا لسنا أمام بديل «ثورى»، وأن إشراف الرئيس والجيش على هذه العملية يدل على أننا أمام إصلاح من الداخل، تدعمه أسماء عالمية مرموقة وليست فى خصومة مع الدولة، كأحمد زويل ومحمد البرادعى (وقتها لم يكن صُنِّف بالكامل كمعارض، والآن أصبح خائناً وعميلاً فى عرف الأذرع الإعلامية) ومجدى يعقوب، وهم جزء من حالة تضم ٢٨٠ ألف مصرى من أفضل عقول هذا البلد اضطروا إلى الهجرة للخارج بسبب البيروقراطية وسياسة قتل الكفاءات.
بل إن هيكل طرح تشكيل وزارة برئاسة رشيد محمد رشيد أو يوسف بطرس غالى، وهما اسمان يصنفان سياسياً فى اليمين ويطمئنان دوائر رأس المال، بما يعنى أنه لا توجد أى نية لقلب الأوضاع القائمة إنما إصلاحها.
والحقيقة أننى كتبت مقالاً فى «المصرى اليوم» (كلمنى بعده «الأستاذ» ودار بيننا حوار طويل) فى 28/10/2009، كان عنوانه «كلمة هيكل للتاريخ أم المستقبل؟»، معلقاً على اقتراحه، وداعماً له، معتبراً أن هناك عقبة رئيسية أمام نجاحه تتمثل فى: من سيجرؤ على المناداة بإعادة ترتيب البيت من الداخل فى حال عدم استجابة الرئيس مبارك إلى هذه المقترحات كما هو متوقع؟ أو بمعنى آخر: من هؤلاء الإصلاحيون الكامنون داخل الدولة والمستعدون لأن يأخذوا المِشْرط ويبدأوا العملية الجراحية من أجل إصلاح هذا البلد، دون هدم النظام أو إهانة الحكم، وهل هؤلاء الإصلاحيون موجودون فعلاً فى الواقع أم فى خيالنا؟
وأضفت ما قد يتردد صداه فى 2016: «إن التحدى الحقيقى يكمن فى قدرة هؤلاء الإصلاحيين على تغيير معادلة الحكم، وإقناع الرئيس بقبول التغيير، خاصة أن الرئيس مبارك لا يرى أن البلد فى أزمة، وأنه نجح فى البقاء فى الحكم ٢٨ عاماً دون أى تهديدات كبيرة، ولديه جيش جرار من أجهزة الأمن قادر على قمع أى تحرك شعبى أو غير شعبى، وهو أيضاً جاء من خلفية ترى العمل السياسى نوعاً من الالتزام الوظيفى، وأن مشكلات مصر يتم حلها (اليوم بيومه)، وقضايا دخول التاريخ أو الجغرافيا (كما سبق أن ذكر لزميلنا الراحل محمد السيد سعيد) ليست فى ذهنه، وبالتالى من غير المتوقع أن يقبل الرئيس مبارك هذه الاقتراحات أو حتى يستمع إليها».
واعتبرت أن هناك إصلاحيين داخل النظام والدولة، وحتى الحزب الوطنى، ولكن المنظومة التى تربوا فيها لا تسمح لمعظمهم بمجرد مناقشة أفكار من نوع «استئذان الرئيس» بالانصراف معززاً مكرماً، وحثه على الراحة بعدم ترشيح نفسه لولاية قادمة، وبالتالى يصبح سيناريو «إقناع الرئيس» بمغادرة السلطة أمراً شبه مستحيل.
وهذا فى الحقيقة ما حدث، فلم يقتنع مبارك بالتغيير ولا بالإصلاح، وشهدت مصر ثورة شعبية واسعة أجبرته على التنحى والخروج غير الكريم من السلطة، وحاكمته وقضت محكمة النقض بفساده.
ما يدهشنى أن ما ذكرته فى 2009 تعليقاً على مبادرة «الأستاذ» الإصلاحية يصلح ولو فى بعض جوانبه الآن: «إن هناك ظروفاً كثيرة قد تدفع فى السنتين القادمتين النظام إلى الضغط على الحكم أو الانفصال عنه، منها ما هو قدرى، ومنها ما يتعلق بخطر الفوضى والتحلل واستمرار الفشل، وهى كلها ظروف قد تدفع من يمتلكون ترف التأفف الآن من هذه المناقشات إلى الترحُّم عليها».
ما تعرض له هيكل من شتائم وبذاءات فى ذلك الوقت طواه النسيان، ولكن بقيت قدرته أن يقدم ولو فى الوقت الضائع مبادرة إصلاحية كبرى رفضها مَنْ فى الحكم بغطرسة تماماً مثلما فعل بعدها الإخوان (راجع مقالى: الطريق لفشل الإخوان) حين رفضوا الاستماع لكل تحذيرات الفشل الكبير، والآن نحن لسنا على الطريق الصحيح وهناك من لا يرون كرة الثلج المتدحرجة بسرعة البرق ويسيرون عكس الاتجاه بجدارة لا يحسدون عليها ودون أى استفادة ولا قراءة لتجارب التاريخ.
المصدر