عمرو حمزاوي | يكتب : عن تقسيم الدوائر الانتخابية
من يبحث فى التفاصيل الدستورية والقانونية والسياسية للفترة الممتدة بين 1923 و1952، سيجد الكثير من الإشارات إلى توظيف الحكومات الوفدية وحكومات أحزاب الأقلية لأداة إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لضمان فوز مرشحيها بأغلبية مقاعد المجالس التشريعية وإلى اعتمادها بدرجات متفاوتة على تغيير العمد والمشايخ وموظفى الوحدات المحلية وبعض شرائح موظفى العموم لضمان ولاء الإدارات الحكومية المضطلعة بتنظيم العمليات الانتخابية ومحابتها لمرشحى الوفد حين يكون فى الحكم ومرشحى أحزاب الأقلية حين يدفع القصر بهم إلى الحكم ــ بل إن بعض العمليات الانتخابية شهدت تزويرا فاضحا كما فى انتخابات 1938.
وبين 1952 و2011، تراكمت لدى الحكومات المصرية المتعاقبة خبرات سلطوية عديدة من تطويع الأدوات الدستورية والقانونية لخدمة حكم الفرد عبر قوانين مفصلة لمباشرة الحقوق السياسية وللمشاركة الانتخابية إلى توظيف أدوات كتقسيم الدوائر الانتخابية وتدخل الإدارات الحكومية فى العمليات الانتخابية لضمان النتائج المرغوب بها من قبل الحكم بل وللتزوير الصريح وبالقطع، تصاعدت أهمية مثل هذه الأدوات بعد قرار الرئيس الأسبق السادات فى 1976 باعتماد التعددية الحزبية المقيدة والسماح بشيء من التنافس المقيد على مقاعد المجالس التشريعية من خارج دوائر الحكم، ثم أضيف إلى كل ذلك طغيان المال السياسى والانتخابى خاصة فى العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق مبارك وتواصل النفوذ الانتخابى للعصبيات العائلية والريفية والقبلية المتحالفة تقليديا مع الحكم (بغض النظر عن توجهاته وتقلباته).
والآن، وبعد ما يقرب من أربعة أعوام من الصراع على الحكم فى مصر بشىء من الأدوات الانتخابية وبالكثير من الأدوات الأخرى ومع تردى أوضاعنا الراهنة المرتبط عضويا بإماتة السياسة كفعل حر وتعددى وتوافقى وهيمنة التحالف بين السلطة التنفيذية وبين المصالح الاقتصادية والمالية والإعلامية الكبرى وطغيان المكون الأمنى على صناعة السياسة العامة، يستعيد الحكم ذاكرة توظيف أداة تقسيم الدوائر الانتخابية كما استعاد ذاكرة القوانين المفصلة لمباشرة الحقوق السياسية والانتخابات وأدوات أخرى لضمان الوصول إلى مجلس تشريعى يتواءم مع مصالحه أو بالأحرى رؤيته لمصالحه.
فقوانين الانتخابات التشريعية الراهنة ومشروع قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، والسلطة التنفيذية تتجه إلى إقراره، ستأتى ببرلمان مفتت تتوزع مقاعد كتله المؤثرة على مرشحى الحكم المباشرين ومرشحى المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى ومرشحى العصبيات المختلفة بينما يهمش مرشحو الأحزاب ومرشحو أفكار وبرامج السياسة العامة. وليس لمثل هذا التفتيت ولا نمط توزيع مقاعد المجلس التشريعى الناتج عنه إلا أن يرتب استمرار هيمنة السلطة التنفيذية وتحالفاتها على الحكم وصناعة السياسة العامة، واستتباع البرلمان من قبلها وفقدانه لأجندة تشريعية ورقابية مستقلة، واستبعاد أصوات ومجموعات الدفاع عن الحقوق والحريات والتحول الديمقراطى من عضوية البرلمان من المنبع والحيلولة دون تبلور مناقشات تشريعية ورقابية حقيقية بشأن قضايا كالانتهاكات والعدالة الانتقالية والعلاقات المدنية العسكرية وشروط استعادة مسار تحول ديمقراطى ــ والاستبعاد من المنبع يعنى إما الإبعاد عن الترشح فى الانتخابات التشريعية التى حتما سيسيطر عليها مرشحو الحكم ومرشحو المصالح والعصبيات المتحالفة معه أو الحد من الفرص الفعلية لفوز أصوات ومجموعات الديمقراطية فى الانتخابات حال ترشحها.
فى أمر تقسيم الدوائر الانتخابية وأمور أخرى، إذن، الكثير من الاستمرارية التاريخية المرتبطة بخبرات ما قبل وما بعد 1952 والكثير من تواصل هيمنة الحكم والسلطة التنفيذية على العمليات الانتخابية. هنا أيضا مضامين ضائعة للسياسة كفعل حر وتعددى وتوافقى، ودلائل إضافية على إماتة السياسة وطغيان أهداف السيطرة على المواطن والهيمنة على المجتمع والإدارة الأمنية على توجه الحكم وعلى كل ما عداها. بتنزه كامل عن ادعاء احتكار الصواب المطلق ومع الاحترام الكامل لاختيارات كافة الأطراف والأفراد ممن سيشاركون فى الانتخابات التشريعية، هذه لحظة لاتجاه أصوات ومجموعات الديمقراطية إلى المجتمع المدنى والتنظيمات الوسيطة للاضطلاع بسلمية تامة بجهود الدفاع عن الحقوق والحريات وبجهود تنموية وبجهود الاقتراب اليومى من المواطن والانتصار للصالح العام، وللابتعاد عن التورط فى طقوس سياسية واحتفاليات انتخابية لم تصمم لنا ولا نملك قدرات التأثير على نتائجها أو مخرجاتها.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.
المصدر