أعمدةمقالات

عمر طاهر | يكتب : أنيس عبيد صنايعي الترجمة

عمر طاهر

كتبت و نشرت قبل عام مقالا عن أنيس عبيد‏,‏ باعتباره واحدا من صنايعية مصر في مجال الثقافة و الفنون‏,‏ الرجل الذي فتح الباب أمام أجيال متتالية لمشاهدة السينما العالمية بأن أدخل إلي مصر ترجمة الأفلام‏.‏
تذكرت المقال وتذكرت الدور الذي لعبه هذا الرجل بالفعل كساعي بريد نقل لنا ثقافة الخواجة السينمائية و كانت هذة مهمته علي مدي40 عاما, كنت مترددا من فكرة إعادة النشر و عدم تقديم جديد هذا الاسبوع, لكن في الوقت نفسه كنت أقول أن الكتابة عن الرجل في هذا المكان ستحمل قصته إلي عدد أكبر.
ثم أنتهي التردد و قررت إعادة نشر المقال عندما كانت الصدفة أقوي من أن يتجاهلها الواحد إذ لاحظت أن اليوم(16 أكتوبر) هو ذكري رحيل أنيس عبيد.


قبل عام1944 أغلب الظن أن مشاهدة الأفلام الأجنبية كانت قاصرة علي الجالية الأجنبية التي كانت تعيش في مصر وقتها علي هامش الإحتلال ؟, بالإضافة إلي بعض نخب المصريين القادرة علي الاستمتاع بأفلام غير مترجمة.
لم يكن الأمر مهما بالنسبة لعامة الشعب المصري, إلا أن شابا مصريا خريج كلية الهندسة كان في كل مرة يجلس في ظلام إحدي دور السينما الصيفي في القاهرة يتابع فيلما أجنبيا مع أصدقاء له يضطر معظم الوقت للعب دور المترجم الذي ينقل لأصدقائه معني ما يفوتهم فهمه, الأمر الذي كان يفسد متعة المهندس طول الوقت, فظل يفكر في حل ما لهذه المأساة المتكررة.
ويوم أن وضع المهندس قدمه في باريس ليبدأ مشوار الحصول علي ماجستير الهندسة قادته الصدفة إلي الحل.

هنا و للمرة الأولي يظهر اسم أنيس عبيد في بداية الفيلم علي غير العادة.
2 ـ
لا أحد يعلم متي كان سيأتي اليوم الذي يشاهد فيه المصريون فيلما مترجما, ربما كان الأمر عرضة للتأخير, و كل يوم تأخير كان يعني تدهورا ما في صناعة السينما المصرية, وهو ما وضع انيس عبيد له حدا, فتفتحت مدارك عموم الجماهير و الصناع, حيث أصبح عبيدهمزة الوصل بيننا و بين تغيير طريقة تفكيرنا في الأمر كله, صار تقييم الأفلام المصرية لا يتم بمعزل عما وصل إليه الخواجات علي مستوي الحرفة و المتعة و المعني, أصبح عبيد بتجربته دليلا لنا في عوالم الفن بعيدا عن المدار الثابت الذي كنا ندور فيه.
كان عبيد خير ساعي بريد لنقل الرسائل الضمنية في أفلام الخواجات لنا ببساطة غير مخلة و بقوانينه الخاصة التي كانت موضع سخرية لفترة إلي أن تفهمنا وجهة نظر بعد رحيله و ظهور آخرين في المضمار نفسه.
يلومه البعض علي أنه مؤسس نظرية ترجمة الشتائم الأجنبية بشتائم من عصر ما قبل ظهور الإسلام, قد يعتبره المتحذلقون مترجما خائنا و لكن ضع نفسك مكانه, علي الأقل اجتهد الرجل ووضع مكان ترجمة الشتائم كلاما له معني, فماذا فعل جيلنا الجيل الذي يليه؟.. اخترع الترجمة بـتيييت.

عبيد المولود في أسرة مصرية راقية لم تكن الترجمة حرفته, حتي سافر إلي باريس للحصول علي ماجستير الهندسة, و في مقر الجامعة قرأ إعلانا بالصدفة عن دورات تدريبية ل كيفية دمج الترجمة المكتوبة علي شريط السينما.

كانت دورة تدريبية الهدف منها دعم الأفلام العلمية حيث هناك حاجة ملحة طول الوقت لكتابة المصطلحات علي الشاشة, لكنه وجد في الأمر مدخلا لعمل جديد يجمع بين هوايته السينمائية و بين نوع من البيزنس غير موجود في مصر.

خاض عبيد معركة مع صناع السينما في مصر لإقناعهم بالفكرة, ربما كان الخوف من التكلفة التي ربما لا تبق نجاحا لدي جمهور غير مهتم بأفلام الغرب.

طبق عبيد مشروعه علي أكثر من فيلم قصير و قدمها في عروض خاصة مجانية حت تأكد الصناع من احتمالات نجاحها, بحثوا عن فيلم ناجح ليبدأوا في تطبيق التجربة عليه, فاختاروا فيلم روميو و جوليت ليشهد عام1944 عرض أول فيلم مترجم محققا ايرادات غير مسبوقة.
بعدها و علي مدي أربعين عاما انفرد عبيد بالمهنة حتي صارت اليوم مبتذلة يستطيع أي شخص ان يقوم بها بتحميل الترجمة من علي الأنترتنت و لصقها ببرنامجVirtualDub مع تحيات أمير الصحراء أو برنس الأردن, يرتاح الواحد كثيرا لفكرة أن عبيد رحل قبل أن يحضر هذا العبث الذي يتجلي بان تحتوي الترجمة علي تنبيهات أثناء المشاهدة( انتبه هناك مشهد ساخن قادم).

3 ـ

في العام الذي رحل فيه أنيس عبيد(1988), كان قد اتم مهمته بنجاح في تعريفنا علي العالم, في المقابل وعلي هامش وفاته كان العالم يتعرف علينا من جديد, فبعد نشرخبر رحيل عبيد في الصفحة الأخيرة من الاهرام بفترة, ظهر في الصفحة الأولي صورة لـ نجيب محفوظ يرتدي البيجاما و يمسك بزهرية كبيرة و مكتوب نجيب محفوظ يتسلم جائزة نوبل من السفير السويدي.

اليوم بينما أكتب عنه كواحد من الصنايعية اتأمل اللحظة التي كان يجلس فيها عبيد علي مقهي في باريس يراقب كشاب في مستهل حياته صراعا داخليا شديدا بين قرارين, قرار الحصول علي الماجستير, وقرار التخلي عن الهندسة و التفرغ للسينما, أفكر أنه من حسن الحظ ان هذا الصراع كان يدور في الغربة بعيدا عن كلاسيكية تفكير المصريين في المستقبل, حيث كان مؤكدا في حال عرض الامر علي من حوله في مصر أنه سيسمع تعقيبا واحدا.. تبا لك.

 

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى