أعمدةمقالات

فهمى هويدى | يكتب : تحرير سيناء فريضة مؤجلة

 

فهمى هويدى

لا أرى سبيلا لإحياء الذكرى الخامسة والستين للنكبة التى حلت بفلسطين (فى ١٥/٥/١٩٤٨) إلا بالدعوة إلى المطالبة بتحرير سيناء، لأن الصلة وثيقة بين الاثنين.

(1)

هذا المنطوق يحتاج إلى شرح. لذلك أرجو ألا يسارع أحد إلى تأويله أو استخلاص رسالته قبل أن أوضح ما عنيته. إذ قد يستغرب البعض إذا علموا أننى استلهمت فكرته من حديث الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع إلى رجال الجيش الإعلاميين الذين شهدوا يوم السبت الماضى 11/5 ختام ما سمى «إجراءات التفتيش» لأحد التشكيلات المدرعة بالمنطقة المركزية. إذ ذكر أن تطوير الوحدات والتشكيلات ورفع معدلات كفاءتها القتالية يتم بمعدلات غير مسبوقة، بما يضمن لها القدرة على مجابهة التحديات والوفاء بالمهام المكلفة بها فى حماية الوطن. وقد لاحظ كثيرون أن الفريق السيسى وجه فى كلامه رسالتين، إحداهما أكدت على الجهد المبذول لرفع الكفاءة القتالية للقوات المسلحة، بعد إعادة تسليحها وفقا لأحدث النظم القتالية. أما الرسالة الثانية فقد حرص فيها على أن يؤكد على أن الجيش لن يتدخل فى الشأن السياسى، وأن على السياسيين أن يتوصلوا إلى صيغة للتفاهم فيما بينهم، لأن المطالبة باستدعاء الجيش التى رددها البعض بمثابة لعب بالنار، ومن شأنها أن توقف تقدم البلد لمدة تتراوح بين 30 أو أربعين سنة قادمة.

كنت أحد الذين دعوا فى كتابات منشورة إلى الكف عن الإلحاح غير المسئول على دعوة الجيش إلى التدخل والانقلاب على الشرعية. ومن بين ما قلته إن جيش مصر الآن يخضع لعملية إعادة بناء شاملة، تستهدف استعادة عافيته وتجديد شبابه، لكى يصبح جيشا وطنيا محترفا يليق بدولة كبيرة مثل مصر. ومن شأن ذلك التحريض والاستفزاز الذى مارسه البعض أن يعطل ذلك الجهد النبيل، الأمر الذى يحرم مصر من فرصة تاريخية تعزز بها قدرتها القتالية والدفاعية، بعد مرحلة وجه الاهتمام فيها إلى الشرطة والأمن لحماية النظام، وتم ذلك على حساب الاهتمام بالجيش الذى هو درع الوطن وحارس أمنه.

 

هذا الاهتمام بعافية الجيش المصرى لا ينطلق فقط من إدراك لاستراتيجية المصلحة الوطنية المصرية فحسب، ولكن أية قراءة للمشهد العربى تؤيد بشدة تلك الرؤية، خصوصا بعد تدمير الجيش العراقى وإنهاك وتدهور أوضاع الجيش السورى، الأمر الذى يجعل رفع الكفاءة القتالية للجيش المصرى مطلبا عربيا ضروريا وملحا، للحفاظ على حد أدنى من التوازن الاستراتيجى مع القدرات العسكرية الإسرائيلية.

(2)

فى تقرير «مدار» الاستراتيجى الذى صدر هذا العام عن المركز الفلسطينى للدراسات الإسرائيلية فى رام الله أن إسرائيل لا تزال قلقة للغاية من تغير الأوضاع فى مصر. وتخشى من أن يمس ذلك التغير معاهدة كامب ديفيد التى تعتبرها كنزا استراتيجيا لا تعوض. وهى تعتبر أن مرور عام 2012 بسلام ودون أن يتعكر صفو العلاقات مع مصر إنجازا مهما. وفى ظل النجاح الذى حققته إسرائيل على ذلك الصعيد فإنها استثمرت أجواء الربيع العربى لتجعل من عام 2012 «ربيع الاستيطان». إذ ضاعفت فى ذلك العام مشروعاتها الاستيطانية أربعة أضعاف ما كانت عليه عام 2011.

يتحدث التصوير الاستراتيجى عن التقديرات الأمنية الإسرائيلية التى تجمع على أن مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 سوف تختلف حتما عنها قبل ذلك التاريخ، الأمر الذى يفرض على الدولة العبرية أن تكون مستعدة للتعامل مع مختلف الاحتمالات. ومن حيث المبدأ فإنها تعتبر الانسحاب من معاهدة كامب ديفيد خطا أحمر لا تستطيع أية حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه. ولديها الخطط اللازمة لمواجهة الاحتمال الاسوأ. ويعد ارتهان شبه جزيرة سيناء لصالح إسرائيل أحد المفاتيح التى تقبض عليها وتلوح بها بين الحين والآخر للضغط على مصر وابتزازها. والمتواتر فى الدوائر السياسية أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو لوح بورقة سيناء فى اتصال هاتفى له مع الرئيس الأمريكى حين صرح الدكتور نبيل العربى عندما كان وزيرا للخارجية بعد الثورة بفكرة فتح معبر رفح أن فلسطين غزة.

فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن الوضع فى سيناء يشكل نقطة ضعف أساسية فى الموقف المصرى بعد الثورة، جعلت مصر فى موقف حرج كبَّلها بوضع شاذ يمس سيادتها ويهدد أمنها القومى، وهو ما ينال من كرامة البلد فى حين ثار شعبه وضحى بشهدائه لكى يصونها ويدافع عنها.

أدرى أن معاهدة السلام لها صبغة دولية وصلتها وثيقة بموازين القوى فى المنطقة وبالتالى فنحن مضطرون للصبر عليها. إلا أن شقها الخاص بانتقاص السيادة المصرية على سيناء (التى تنص عليه المادة الرابعة من الاتفاقية) أصبح عبئا على الأمن القومى المصرى يصعب السكوت عليه. ليس فقط لأن الدولة مقيدة السلطة على رقعة من أراضيها ولكن أيضا بعدما تبين أن غياب تلك السلطة خلق أوضاعا شاذة فى تلك البقة سمحت بنشوء بؤر إرهابية وإجرامية تهدد أمن مصر وسلامتها. فما عاد مقبولا أن تمزق سيناء إلى ثلاث مناطق يتفاوت فيها ضعف الوجود العسكرى المصرى، ومن المخزى أن يعبر القناة فى حرب 1973 حوالى 80 ألف جندى وألف دبابة، ثم يوافق الرئيس السادات بعد «النصر» على سحبها جميعا غرب القناة فى اتفاق فض الاشتباك، باستثناء 7 آلاف جندى و30 دبابة فقط لا غير.

وما عاد مقبولا أن يحظر على مصر إنشاء أى مطارات أو موانئ عسكرية فى كل سيناء، ومن المحزن والمريب أن تقف أقرب دبابة إسرائيلية على بعد ثلاثة كيلو مترات من الحدود المصرية، فى حين أن أقرب دبابة مصرية تبعد 150 كيلو مترا عن نفس النقطة.

 

هذا بعض ما نبهت إليه الدراسة التى أعدها المهندس محمد سيف الدولة المختص بالموضوع، والتى نبه فيها أيضا إلى وجود القوات الأجنبية التى تقودها الولايات المتحدة فى سيناء، ولا يجوز لمصر أن تطالب بانسحابها إلا بعد موافقة جماعية من الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن.. وتلك القوات تتبع حلف الأطلنطى وقوامها 2000 جندى، وهى تراقب مصر أساسا فى حين أن هناك 50 شخصا مدنيا يراقبون الجانب الإسرائيلى.

التفاصيل كثيرة فى هذا الملف، وكلها تجمع على أن الوضع فى سيناء يمثل وصمة فرضت على مصر ثغرة فى جدار أمنها القومى المصرى، يجب ألا يستمر السكوت عليها بعد الثورة، ويتعذر التعامل معها إلا بعد أن تستعيد مصر عافيتها السياسية والعسكرية.

(3)

من سخريات الأقدار ومفارقاتها أن الرأى العام المصرى جرى تشويهه خلال العقود الأخيرة، إذ نجحت أبواق الرئيسين السابقين السادات ومن بعده مبارك فى قلب الصورة ومسخها فى سيناء بحيث أقنعت كثيرين بأن الخطر على سيناء يتمثل فى الفلسطينيين وليس الإسرائيليين. وثمة شائعة راجت فى مصر تدعى أن الفلسطينيين يطمحون فى التمدد فى سيناء والاستيطان بها، بحيث تضم إلى قطاع غزة فى نهاية المطاف. وينسى هؤلاء ثلاثة أمور أساسية هى:

ــ أن الرئيس جمال عبدالناصر كان قد طرح الفكرة فى عام 1953، حين كان يحسن الظن بالأمريكيين، وتصور أنهم سوف يساعدونه فى توطين الفلسطينيين فى شمال غرب سيناء، وثمة تقرير بهذا الخصوص نشره الباحث الفلسطينى حسن أبوالنمل فى كتاب أصده مركز أبحاث منظمة التحرير سنة 1978 ــ وذلك التقرير أعده المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى فى مصر بالتعاون مع وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين، وهو مطبوع بتاريخ 28 يوليو 1955. وقد نبهنى إليه الباحث الفلسطينى المخضرم عبدالقادر ياسين الذى عاصر تلك المرحلة. وهو يذكر أن الفكرة لقيت معارضة شديدة من الفلسطينيين آنذاك، وأن وفدا منهم ضم ممثلين عن الإخوان والشيوعيين والمستقلين جاء للقاء الرئيس عبدالناصر وأقنعه بالعدول عن الفكرة.

ــ إن الإسرائيليين احتلوا سيناء مرتين، بعد عدوان 56 وبعد حرب 67، وأمضوا هناك نحو 15 عاما، كانت الحدود خلالها مفتوحة بين غزة وسيناء، وكان من اليسير للغاية على الفلسطينيين أن يتمددوا فى سيناء ويستوطنوا فيها، ولكنهم لم يفعلوا رغم أنه لم يكن هناك عائق يحول دون ذلك. وظلوا متمسكين بالبقاء فى بلادهم وعلى أرضهم التاريخية.

ــ إن فكرة توطين الفلسطينيين بصفة دائمة فى سيناء مصدرها إسرائيل ولم ترد فى أى مشروع أو مخطط فلسطينى. والباحثون الأكاديميون يعرفون جيدا أن الساسة الإسرائيليين طالما تمنوا أن يحلوا مشكلتهم مع الفلسطينيين عبر نقلهم إلى أى مكان فى الكرة الأرضية. وإذا كانوا قد رشحوا لذلك بعض دول أمريكا اللاتينية، فلا ينبغى أن يستغرب منهم أن يرشحوا سيناء أيضا، باعتبارها أقرب من الناحية الجغرافية، فضلا عن أنها تتسع لهم ويمكن أن تستوعبهم بسهولة.

(4)

ضعف مصر هو المشكلة، إذ بسببه لم تستطع أن تطالب بتعديل البند الخاص بانتقاص سيادتها على سيناء، رغم أن الفرصة كانت ولاتزال مواتية لإطلاق تلك الدعوة، حيث لم يعد اضطراب الأوضاع فى سيناء خافيا على أحد، والتهديدات التى تمثلها تلك الاضطرابات لأمن مصر واستقرارها لم تعد موضع جدل أو مناقشة. ولا أحسب أن أحدا يمكن أن يجادل فى أن ضعف مصر أدى إلى إضعاف العالم العربى برمته وإضعاف القضية الفلسطينية بالتالى، الأمر الذى يجرى استغلاله بصورة مكشوفة من خلال دفع العرب إلى تقديم تنازلات مجانية مستمرة للإسرائيليين، كان آخرها طرح فكرة تبادل الأراضى مع إسرائيل لتثبيت تغولها الاستيطانى واستكمال الجريمة التاريخية المتمثلة فى تغيير خرائط الواقع لصالحها.

إن مصر الثورة التى لم تستقر أوضاعها لم تغير شيئا فى القواعد التى أرساها نظام مبارك فى علاقته بالفلسطينيين عموما وفى شأن غزة بوجه أخص. نعم تغيرت الأجواء بصورة نسبية، ولكن القواعد لم تتغير. ذلك أوضح ما يكون فى معبر رفح الذى لايزال معبرا للحالات الإنسانية فقط كما أرادته إسرائيل، وليس ممرا دوليا أو تجاريا كما هو الحال فى الممرات الحدودية فى مختلف أقطار العالم.

ذلك كله يمكن التعامل معه بالكفاءة المرجوة من خلال أمرين، أولهما عافية سياسية وعسكرية تتمتع بها مصر، وكلام الفريق السيسى مهم فى هذا الصدد، وإرادة سياسية تتوافر لصاحب القرار فى البلد، الأمر الذى يسلحه بشجاعة تمكنه من أن ينحاز إلى مصالحه العليا، فيتبنى قضية استعادة السيادة على سيناء ولا يتردد فى الجهر بموقف شريف يرفض التفريط فى القضية الفلسطينية، ويتمسك بالدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى.

المصدر

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى