أعمدة

محمد المنسى قنديل | يكتب : عدو بلا وجه

2016-635905671139897726-989

أنهم ليسوا محاصَرين، ولديهم القدرة على توجيه ضرباتهم إلى أي مكان يريدونه في الوقت الذي يريدونه، والأخطر من ذلك كله هو قدرتهم على اختيار الضحية التي يريدون اغتيالها.

هذه بعض الهواجس التي تبادرت إلى ذهني فور سماعي نبأ اغتيال العميد عادل رجائي، الرجل الثاني في الجيش الثاني المصري وأحد القيادات العسكرية المهمة، وقد تم اغتياله أمام منزله في مدينة العبور، في النقطة صفر التي يتحرك منها كل صباح، دون أن يتركوا الفرصة له أو لحراسه حتى يغيروا من خط سيرهم بعد ذلك.

وتمت العملية رغم وجود هؤلاء الحراس، بل إنهم قد أصيبوا أيضا وتم سلب أسلحتهم، كان هناك وقت كاف أمام منفذى عملية الاغتيال لإطلاق 12 رصاصة عليه منها واحدة على رأسه، وكذلك سلبه سلاحه الميري، فعل المغتالون ما يريدونه بالضبط كأنهم يقتلون شخصية عادية وسط صحراء جرداء، وهذا هو الشيء الصادم في الأمر!

لقد أطاحت الحادثة بكل ما نتحدث عنه حول مقاومة الإرهاب، فلم يعد وجودهم قاصرا على الجزء الشمالي من جزيرة سيناء، ولكن ثبت بالدليل القاطع أنهم قادرون على التسرب إلى كل مكان، وأن لهم الكثير من الخلايا النائمة بيننا، تنتظر الفرصة حتى توجه ضربتها.

إننا نواجه عدوا بلا وجه محدد، ولا مكان ثابت، وجهه يشبه وجوهنا، ويتحدث بنفس لغتنا، ويحمل بطاقات الهوية نفسها، ولكنه يكنّ لنا درجة قاسية من العداء لم نعهدها من قبل، نحن لا نتصارع معه حول الموارد، فهي شحيحة علينا وعليه، ولا نتصارع حول العقيدة الدينية، لأننا نتشارك فيها، ولا يوجد أي صراع عرقي، لأن الشعب المصري متجانس لدرجة الملل، كل ما نتصارع حوله هو بعض الخلافات السياسية، من يحكم من؟

ومن يختار الحاكم، نحن أم هم؟ هل هناك خلاف أكثر من ذلك، ولكنهم رفعوا هذا الخلاف إلى درجة الصراع على الوجود، وجودهم أو وجودنا، ولم يفتهم أن يغلفوا خلافهم بثوب من كهنوت الدين، ثوب متشدد إلى حد ما، ربما يكون مكانه المسجد، أو قاعة المؤتمرات، ولكن ليس ميدان المعركة بأي حال من الأحوال، من الجائز أن نختلف ونتشاجر ونتخاصم أحيانا، ولكن أن يصل بنا الأمر إلى حد التقاتل، فهذا نوع من الجنون.

الإرهاب فى مصر مجنون، أصبح واسع الانتشار، وكلما ازدادت درجة الفقر ازدادت حدته، لا أعرف كم منطقة عشوائية في مصر يسكنها الفقراء، ولكنها كثيرة، ولا أعرف كم قرية في الريف المصري تعاني من الجوع والحرمان، وهي كثيرة أيضا، هناك مناطق لا يعرف عنها النظام شيئا، وبالقرب من القاهرة عاصمة البلاد توجد مناطق لا يجرؤ رجال الشرطة على دخولها.

لا توجد فيها مدارس ولا مستشفيات ولا تقدم لها الدولة أي نوع من الخدمات، هذه المناطق هي التي تفرخ كل هذا الكم من الشباب اليائس الذين يلقون بأنفسهم في البحر بحثًا عن شاطئ آخر ملىء بالأمل والحياة، ومنهم أطفال كثر لا تتعدى أعمارهم الخمسة عشر عاما، ومن هذه المناطق أيضا يخرج الشباب الذين يذهبون للقتال في معارك يائسة في سيناء وليبيا وسوريا.

أرحام نساء مصر لا تتوقف عن إنجاب الأطفال، لا تتساءل عن المصير الذي ينتظرهم، ولا كيف يمكن تدبير العيش لهم؟ وإذا كان رجل الشرطة أو المدرس أو الطبيب لا يدخلون هذه المناطق، فإن شيوخ الفتنة يقدرون، يدخلونها محملين بمنطق لا يمكن رفضه بحجة أنه قادم من السماء، يفرخون لنا من هذه المناطق جيلا من الشباب الناقم الذين يرون أن الدنيا كلها كافرة وأن شيوخهم فقط هم من يملكون الحقيقة.

كيف يمكن محاصرة كل هذا الكم من الشباب الذين يولدون من رحم الفقر في مصر؟

ولكن عملية اغتيال العميد عادل رجائي تكشف عن جانب آخر بالغ الخطورة، فالإرهاب قد وصل إلى مرحلة جديدة، لم يعد عشوائيا كما كان من قبل، لا يكتفي بوضع أي عبوة متفجرة في أي مكان، ربما تنفجر وتصيب أي أحد، أو ربما تنكشف وتتفكك، ولم يعد يملأ سيارة بالمتفجرات ويتركها على جانب من الطريق، ربما تنفجر بفعل المصادفة في الهدف الذي يسعون إليه وربما لا تنفجر أصلا، فشلت هذه الطريقة في اغتيال وزير الداخلية، عندما انفجرت السيارة قبل مروره بلحظات، ونجحت في اغتيال النائب العام بفعل المصادفة، لأن الانفجار كان هائلا وأصاب الرجل والحرس والمباني المحيطة، ولكن حجم النيران هذه المرة كان بسيطا ومؤثرا، لأن التخطيط كان جيدا، لقد اختاروا الضحية أولا، شخصية عسكرية كان لها دور مؤثر في ليلة القبض على مرسي وانهيار نظام الإخوان، لأنه كان مسئولا عن تأمين القاهرة، كما كان له دور في مقاومة المتمردين داخل سيناء وقام بتدمير عشرات الأنفاق وغمرها بالمياه، بعد ذلك حددوا مكان سكنه وهو عبارة عن شقة صغيرة ومتواضعة في مدينة العبور، كان يعيش فيها مع زوجته وحيدين، لأنهما لم يرزقا بأطفال، منطقة قليلة الزحام، الدخول إليها والهروب منها سهل نسبيا، ومن الواضح أنهم راقبوا تحركاته جيدا، لذلك عرفوا موعد خروجه مبكرا للعمل كل يوم، وعرفوا أن هناك سيارة عسكرية وحراسة من الأفراد تقف في انتظاره.

ولكن الغريب أنه ولا واحد من الحراس لم يلحظ تحركات القتلة وهم يختارون مواقعهم، الإهمال المصري المعتاد، اعتمد القتلةُ عليه، وعلى عنصر المفاجأة أيضا، أبطلوا عنصر الحراسة، حوّلها هي أيضا إلى ضحايا، ذكاءُ شرير، ولكن يجب أخذه في الاعتبار.  إنهم يخططون، يعرفون أن هناك حراسة ولكن هذا لا يجعلهم يتراجعون، ينفذون العملية رغم وجودهم اللا مجدى. هذه هي ملامح المعركة التي نخوضها، عدو بلا وجه يمكن أن يوجد في أي مكان، لا يمكن محاصرته، أو الحد من الذين ينضمون إليه، عدو قابل للتطور، وبالتالي تتصاعد درجة خطورته، العميد رجائي لم يكن الضحية الأولى، ولن يكون الأخيرة، ولكن خطة الإرهابين قد أصبحت واضحة، سوف يستهدفون الشخصيات العامة، لأن تأثير ذلك سيكون مدويا، وسيخلق حالة كبيرة من الإحباط.

والمؤسف أننا لن نستطيع حماية هذه الشخصيات ما دامت حراستهم بهذا المستوى، وعلى هذه الشخصيات أن تتصرف وتتعاقد مع شركات خاصة، فنحن لا نكفّ عن الصياح أننا في حرب ضد الإرهاب، ولكننا نخوض هذه الحرب وظهورنا مكشوفة، لا تستطيع رد الطعنات التي توجه إلينا، واغتيال العميد رجائي كان واحدة من أقسى هذه الطعنات، وعلينا أن نكفّ عن الصياح، وأن نفكر كيف نتقي هذه الطعنات ونقضي على فاعليها.
المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى