مقالات القراء

محمود مطر| يكتب: قطار العمر ورصيف 5 صيف 1985

محمود مطر
محمود مطر

كعادته في كل مساء يجلس بعد انتهاء العمل يتصفح الأخبار ويعرف ما يدور من حوله لكنه هذه المرة قرر أن يسافر عبر القطار إلي بلد ساحلية يستجم في هذا الصيف شديد الحرارة وبعد ان جهز ملابسه ذهب ليستقل القطار وجلس علي رصيف رقم 5 لينتظر القطار هنا بدأ عقله ينخرط في موجة كبيرة من الذكريات والحنين إلي أشياء مر عليها سنين وبدأ يربط بين رحلته وبين فلسفة القطار الذي في معظم الروايات جسد كشخص يحكي ولكنه أصم يروي بالاشارة والحركة ومن هنا سنبدأ.

في البداية لابد أن أعترف إنني أحب نافذة القطار عن أي نافذة أخري وذلك لأنها تختلف بسبب ما تخلقه السرعة وما يسمي السرعة في السكون تتعاقب كأنها شريط سينمائي فهي ليست سوي مرأة نابضة ‬يمتزج فيها عالم القطار الخارجي الكبير بالعالم الصغير الخاص بك المناظر التي يمر بها التي تتداخل بأحلام اليقظة الذي يتقوقع فيها لذلك عندما تتوالي علينا الأيام بسرعة كبيرة ويمضي قطار العمر بنا دون توقف فتأخذ الحياة أعمارنا بالقوة لتحقق الحقيقة الثابتة في هذا الكون عازفة لحنها الأخير .

كثيرة هي المحطات التي نمر بها في حياتنا سواء كانت محطات مبهجة عشنا بها ولو لحظات سعيدة صنعنا بها ذكريات مازالت محفورة في قلوبنا وتركت فينا معاني جميلة وقيمة أو محطات عشنا بها لحظات ضعف وانكسار وحزن فطالما أنت في قطار الحياة لابد ان تمر علي هذه المحطات فليست كلها شبيهة ببعضها البعض فلقد مر كل منا بمرحلة الطفولة ثم مر القطار فوجدت نفسك في مرحلة الصبا ثم مرحلة الشباب وانت بعد سنين ستبلغ مرحلة الرجولة الكاملة ثم يمر القطار بك سريعا إلي مرحلة الشيخوخة وهنا لا بد لرحلتك أن تنتهي فهذه سنة الحياة يا صديقي لكن أقول لك شيئا هاما أتدري كم من مرة توقفنا للحظة في محطات مبهرة احببنا الوقوف فيها طويلا إلا أن قطارنا رفض ذلك فكان يأخذنا بغير رغبتنا ويسير بنا الى محطات اخرى وكم تمنينا أن نعود الى تلك المحطات الجميلة المبهجة مرة ثانية ولو للحظات كي نعيش أوقاتها الجميلة مرة اخرى لكن محال ان يحدث ذلك .

ومن أجمل ما قرأت عن علاقة القطار وارتباطه برحلة العمر مقولة للكاتب جمال الغيطاني حينما قال («تمضي القطارات هادرة، مختالة، لكنها على القضبان وحيدة، في الخلاء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول لا تدوم الصلة إلا مقدار لقاء العجلات بالقضبان عند اكتمال السرعة»

في السفر بالقطار تجده أشبه بلوحة حياتية مصغرة فالركاب الجالسون معك في العربة هم الافراد الذين تقابلهم في حياتك فعندما تجلس تسمع قصص وحكاوي مميزة تسمع أمور منها المضحك ومنها المبكي دورة حياة كاملة تنتهي بنزولك في إحدي المحطات عمر يمر ووقت يمضي في قطار العمر الذي لا يري أمامه بل ويدهس كل من يعترض طريقه لذلك لاتحاول ان تقف في وجهه معبرا عن غضبك وسخطك علي عمرك الذي مضي فهو لن يرحمك أبدا ولن ينظر إلي دموعك .

ومازال صديقي ينتابه الحنين وينتظر القطار علي رصيف 5 عام 1985 حتي قرر عدم السفر ذلك أنه رأي في نصف ساعة ما لم يره خلال عشر سنوات كان غارقا فيها في العمل لم يغادر المدينة قط ورغم كل الحنين والاشتياق والذكريات قرر أن يعود إلي حياته المسروقة منه والي روتينه اليومي ومنذ ذلك الوقت انتظرا كثيرا حتي يخبرني أن لا أصبح مثله حتي قال لي مرة هل تعلم ما هو أسوء شئ في ركوب القطار ؟!
فقلت له ما هو !

فقال لي بكل سخرية ضاحكا لا‭ ‬خوف‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬جاء‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬تعرفه‭ ‬وجلس‭ ‬إلى‭ ‬جانبك‭ ‬والعربة‭ ‬كلُّها‭ ‬فارغة‭ .
في النهاية يا صديقي لابد ان تعرف أنه حين‭ ‬ينطلق‭ ‬بك‭ ‬القطار‭ ‬يغلق‭ ‬ماضيك‭ ‬أبوابه‭ ‬وتُستأصل‭ ‬جذورك‭ ‬فلا‭ ‬يعود‭ ‬لك‭ ‬هوية‭ ‬سوى‭ ‬ذكرياتك‭!‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

shady zaabl

كاتب صحفي مصري مهتم بالمواقع الإلكترونية وإدارتها وكتابة المقالات في جميع الأقسام وذو خبرة في الصحافة والإعلام والمحتوى لـ 5 سنوات وفقً لدراسة أكاديمية وتطبيق عملي .
زر الذهاب إلى الأعلى