أعمدةرأي

عمر طاهر | يكتب : اللى أكلوه «فلول فلول» هيطلع «طابور خامس طابور خامس»

عمر طاهر

يبدو لنا أننا جميعا نتحدث فى السياسة منذ ثلاث سنوات، بل إننا نحسب ذلك من التغييرات الجذرية الإيجابية التى أحدثتها الثورة فى المصريين، لكن الحقيقة غير ذلك.

خلافاتنا منذ يناير 2011 نفسية بالأساس. فى البداية مثلا احتفل البعض بفكرة القوائم السوداء، أحكام إعدام مبكرة بتهمة الفلول، وهى تهمة لا يمكن إنكارها، لكن الحديث هنا عن طريقة التعامل معها. ما قانون الإدانة؟ وما العقوبات التى تصلح ولا تفسد، كما هو المرجو من أى عقوبة قانونية؟ كانت كلمة فلول فى البداية واضحة بما يكفى للإشارة إلى شخص متورط فى فساد أو موالسة، ثم صار الحكم بالفلولية عقابا لأى شخص قد يخالفك الرأى.

ثم أصبح هناك كيان كبير اسمه «الفلول» محط عقاب بالسخرية والنفى، كانت اللعبة ناجحة وكانت الكلمة تثير الذعر.

كل من سميتهم «فلول» فى عام الثورة الأول بمناسبة ودون مناسبة عادوا الآن أقوى بكثير، عادوا لينتقموا بقوة كجرحى لم تقتلهم الفلولية لكنها زادتهم قوة، وما أكلوه «فلول فلول» طلع على الثوار «طابور خامس طابور خامس». الآن العقاب يعانى من التشويش نفسه، فعقاب «طابور خامس» أصبح لعبة فى يد أى شخص يسعى بدرجة كبير لنفى وإقصاء أى صوت للثورة، بل لا مانع من الإعدام «لم يكن هناك مانع من إعدام بعض الفلول أيضا بالمناسبة وقت أن كانت الكلمة للثورة». عشوائية توجيه الاتهام فى الحالتين واحدة تقريبا، لكن عقوبة «الطابور الخامس» أكثر عنفا وضلالا، كما يليق بشخص مشغول بالانتقام لنفسه ولأسرته ولعلاقاته وأكثر من انشغاله بالوطن.

وما بين التجربتين كان الأمر الأكثر وضوحا أن كل فصيل «فلول أو طابور خامس أو إخوان» يريد أن يستأثر بالبلد لنفسه، وأن لا يقطع عليه أى فصيل آخر حبل أفكاره ليصنع بلدا على هواه، الاستئثار بالبلد كانت مشكلة نفسية كبيرة وما زالت، فلا أحد يمتلك ثقة بالنفس كافية ليشارك الآخرين أفضل ما فيهم، وكل فصيل يشعر بالخوف ولا ينام هلعا من أن يترك سنتيمترا واحدا ليقف عليه فصيل آخر، وإلا تضخم وأهلكنا، فلا بد من الإعدام التام ما لم يكن جسديا فليكن على الأقل معنويا، فتدفعه دفعا ليخرس تماما، هذه مسألة حياة أو موت نفسى.

الكلمة الآن لمن قضوا عقوبة الفلول، ومثلما كان البعض يتعرض لمعايرة بسبب صورة له مع على الدين هلال على أقل تقدير، صار الآن السؤال أساسيا فى مقابلات القبول بأى وظيفة قطاع عام أو خاص «نزلت الميدان فى 25 يناير؟»، لأننا لن نسمح لك أن تعمل معنا «السبب المعلن: وطنى، السبب الحقيقى: بارانويا افتكر لك إيه يا بصلة وكل قطمة بدمعة».

النفسنة تجلت منذ بدايات الثورة عندما تغيرت خريطة الأضواء والشهرة، عندما اقتطع منها -على حد تعبير صديق فلول كبير- أطفال بلهاء الجزء الأكبر وصار الكبار يتوددون إليهم وينافقونهم بحثا عن رضاهم، جن جنون كثيرين بسبب السجادة التى سحبت من تحت أقدامهم فجأة لصالح أشخاص مجهولة، أو كما قال واحد كان من داعمى شباب الثورة فى برنامج بعد يونيو بطريقة لا يخطئها باحثو مرض انفصام الشخصية «العيال اللى طلعت لنا على الوش»، لذلك تجد لدى من أنهى عقوبة «الفلولية» رغبة كبيرة مدعومة شعبيا لامتلاك السجادة كاملة فى كل مكان تليفزيون وراديو وصحافة، لن ندع لأحد «شرشوبة» يقف عليها ولو حتى فى صورة ضيف بالصدفة فى برنامج «بالضبط مثلما كان أهل الثورة سابقا (الطابور الخامس حاليا) يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، لأن رمزا فلوليا ظهر كضيف عند فلان أو فلانة».

أضف لبراح النفسيات المعتلة أن لا أحد نجا من «العبدنة»، فكل فصيل اختار شخصا وعينه طبيبه النفسى، ثم أفرط فى عبوديته والإبقاء عليه حتى يحمى ثباته النفسى، طبيب يقضى على أى وسواس قهرى يصيبه من آن لآخر، بداية من كارلوس لاتوف الرسام مرورا بتجارب لا تنتهى، فهناك مجموعة كان طبيبها النفسى البرادعى، وأخرى المرشد، وأخرى السيسى، وأخرى باسم يوسف، وأخرى توفيق عكاشة، وأخرى عصام سلطان، أو حازم أبو إسماعيل، كل متمسك بطبيبه وكل يعامل الآخرين بالطريقة نفسها، لا فرق بين أن يكون طبيبك آية فى الرقى أو آية فى الفحش.

هل فكرت لماذا تنقلب الأمور دائما إلى كلام فى السياسة من أبو تريكة إلى ضحايا سانت كاترين؟ لأن لا أحد يشعر باستقرار نفسى يسمح له بالتعامل مع كل شىء فى حجمه الحقيقى دون مبالغة فى الهجوم أو التأييد، اتفق الناس دون سابق اتفاق على أن يتخذوا السياسة كغطاء لهستيريا قابعة فى أرواح كثيرة.

هلع وهستيريا وبارانويا وانفصام شخصية وطفولة متأخرة وضلالات ووسواس قهرى، دعونا نعترف بالحقيقة ولا نستثنى أحدا بمن فيهم كاتب هذه السطور.

تأمل أى شخص يتحدث فى السياسة لتتأكد من كلامى، سيفيض ويزبد فى الكلام الذى يدعم ثباته النفسى، لكن بقليل من التدقيق ستلمح فى عينيه رجاء حارا أن لا تخالفه الرأى فيهلك، رعشة ما فى جفنيه تقول لك إنه «ما صدق» أن استقر على وجهة نظر تكفل له بعض التوازن، فلا تهرسها بوابور زلط المنطق، كلامنا اليوم عبارة عن طبقة سياسة تشبه الباشميل، أسفلها عجين تعقدت مكوناته، أو تماشيا مع الأحداث الجارية كلامنا فى السياسة اليوم عبارة عن كباب قليل كفتة كتير.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى