أعمدة

أحمد المسلماني | يكتب : مقدمة فى فلسفة الثورة

245_2297475

لم تكن هناك كلمة أكثر جاذبية وبريقاً من كلمة «الثورة»، كما لم يكن هناك فضل يفوق فضل هؤلاء «الثوريين» و«المناضلين»، وقد بدا الأمر فى أحيان كثيرة وكأن كلمة «ثورى» أو «مناضل» تشير إلى مهنة أو وظيفة، أو أنها تشير إلى احتراف للتمرد.

وبالمقابل، فإن مفهوم «الإصلاح» كان مفهوماً هزيلاً خائر القوى، يقع ما بين البلادة والخيانة. وقد غالى الثوريون فى تصنيفاتهم لقوائم المخلصين والسارقين، حتى أصبح الثوريون أنفسهم موضع علامات استفهام من قِبَل كل الثوريين الآخرين، ولم يوجد ذلك الثورى الذى لم يصل إليه شك أو يناله عتاب أو لوم، وبات على كل ثائر أن يضع على جدول أعماله توثيق شهادات بإبراء الذمة على مدار الساعة!

وقد كان هذا الشك الواسع وعمليات التخوين الجماعية من بين أسباب فشل المشروع الثورى فى كل مكان؛ فقد فشل الثوريون المخلصون فى أن يعدلوا من آرائهم وأفكارهم، حينما اتضح لهم خطأ المسار أو سوء المنقلب!

ولما جاءت وقائع القرن العشرين مؤيدة للمتشددين وطاردة للمفسدين والمصلحين -معاً- فقد كان مستحيلاً وقف هذا الإعصار الكاسح أو حتى التنبؤ بمساره.

■ ■ ■

كانت الملكيات تسقط والجمهوريات الثورية تسود، ونداءات الإصلاح والديمقراطية تذوب، وتراءى مصير العالم وكأنه يُساق إلى قدر غالب ومصير محتوم.

وفيما كانت النظم الملكية تحكم العالم فى مطلع القرن العشرين، فإن الحروب والثورات قد جعلت السيادة للعصر الجمهورى؛ ففى عام 1910 سقطت الملكية فى البرتغال، وفى عام 1912 أعلنت الصين قيام الجمهورية بعد أربعة آلاف عام من حكم العائلات، وفى عام 1917 سقط الحكم القيصرى فى روسيا، وفى عام 1919 سقط عرش القيصر «غليوم» فى ألمانيا، وسقطت السلطنة العثمانية عام 1922، ثم سقطت الملكية فى بلغاريا ورومانيا عام 1945. وفى مصر عام 1952، وفى العراق عام 1958، وفى اليمن عام 1961، وفى عام 1967 سقطت الملكية فى اليونان ورحل عنها الملك «قسطنطين».

هذا بالإضافة إلى ما أسفرت عنه حركات التحرير فى العالم الثالث من إطاحة بحشد من الملوك فى قصور كثيرة.

وقد فعل التاريخ فعلته واستدار، وبعد عقود طويلة من عصر الثورة، راح يغذِّى الثورة على الثورة، وبعد أن كان المزاج الثورى الجمهورى هو الغالب على العالم، تسرب مزاج آخر بعد أن انتهت عصور الثورة بالفشل، وأصبح من السهل أن ندرك ذلك المزاج المتزايد نحو التخلص من آثار ذلك العصر، بل إن بعض العواصم زاد فيها المزاج إلى حنين لعصور الملكية الفاسدة.

وحين سقط حكم الديكتاتور «نيكولاى شاوسيسكو» فى رومانيا، عام 1989، قالت استطلاعات الرأى العام: إن الملك الرومانى «ميشيل»، الذى أُجبر على التخلى عن عرشه عام 1945 وهو فى الثامنة عشرة، قد بات يتمتع بشعبية كبيرة.

وفى بلغاريا، استقبل أكثر من مائة ألف شخص، احتشدوا فى الميدان الرئيسى بالعاصمة صوفيا، الملك السابق «سيميون»، الذى فقد عرشه فى بلغاريا عام 1945 وهو فى الثامنة من عمره، بالترحاب الشديد ومظاهرات التأييد.

ولمَّا سقط حكم الديكتاتور اليوغوسلافى «سلوبودان ميلوسيفيتش»، استقبل الشعب فى أكتوبر عام 2000 «ألكسندر كاراديور ديفيتش»، ولى عهد يوغوسلافيا السابق، بحفاوة بالغة، وجرى انتخاب رئيس جديد هو «فويسلاف كوستونيتشا»، المؤيِّد لعودة الملكية إلى يوغوسلافيا.

وقد امتد هذا الحنين إلى عصور الملكية باتجاه دول أخرى، مثل أفغانستان التى سقط الحكم الملكى فيها عام 1973.. ثم توالت الأقدار عليها إلى أن جاء الثوريون الإسلاميون لتتحول أفغانستان معهم إلى نموذج الدولة الفاشلة.

ومن كابول إلى بغداد، وربما طهران التى يحاول فيها الأمير «رضا بهلوى»، ولى عهد «إيران» السابق، أن يستوعب الطلاب الثائرين ضد الثورة الإيرانية، واجداً تعاطفاً محدوداً.. وآملاً فى المزيد.

■ ■ ■

وقد سمعت من الشريف «على بن الحسين»، راعى الحركة الملكية العراقية، شرحاً لظاهرة الحنين إلى النظم الملكية واغتراب عن النظم الثورية.. واصفاً الأمر بأنه كان استعجالاً من الشعوب نحو التطور، ثم جاءت النتائج المحبطة.

«كانت الشعوب مستعجلة فى ذلك العصر، وتملَّكها التفاؤل فى عقدى الخمسينات والستينات بأنها ستحصل على نتائج إيجابية بسرعة، لكن الأنظمة التالية تأكدت أن الطريق كان خطأً».

«لقد نجحت الأنظمة الملكية، بالمقابل، فى الوصول ببلادها إلى الاستقلال والاستقرار فى فترة قياسية، وإذا كانت هذه الأنظمة مرتبطة بعلاقات خاصة فرضها عليها المستعمر، فإنها لاحقاً أحلَّت الانفتاح محل الخضوع للاستعمار، ثم إن التحالف مع قوى عظمى تحميها وتسلح جيوشها لم يكن حكراً على النظم الملكية؛ فمعظم النظم الثورية قامت على علاقات خاصة بالقوى العظمى، وبعد خمسين عاماً، وصلت إلى النتيجة نفسها التى كانت قديماً تعتبر تبعية واستعماراً، والآن تسمى تعاوناً ونقلاً للخبرات ودعماً اقتصادياً ودولياً».

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى