أعمدة

إبراهيم عيسى | يكتب : عديد العاشق

ابراهيم عيسى

الحزن عندى التواء فى البطن وسد فى النفس وصد عن الدنيا وعزف عن الحياة وهمود نهائى وغوص عميق وخوض مغرق ووجع لا محدود وحدود مهدرة وسواد مظلم ظالم.. ورؤى ليلة مريضة وحمى سخونة وبرد.. وخيالات ممزوجة بالهواء وفقد للنبض وخلع للذراع ودموع مخزونة تسيل.. وأفكار ملفوفة بالضياع ومدهونة بالتوهة وأغانٍ لا جذور لها.. وسطور متداخلة، وقلم فارغ وهاتف لا يجيب وصباح بلا أحد جوارك وفراغ موحش ووحش كاسر يقف على كتفيك وقطار يدوس على صدرك ووهم كاذب -كالحمل- فى نجاة عاجلة وعجل بطىء فى دوران الدم.. وكف مخذولة وخزى مكشوف وسفر متوقع وألم حاد سكينى ينغرس فى أحشائى وأجثو وأسب العالم كله..

– ماذا تريدون منى؟

– لا أحد يريدك.. لماذا تزعج الخلق؟.. تعالَ عندى.

أسمع صوت جدتى قادمًا من بعيد.. هناك.. تجلس فى صحن دارنا الريفية، أعبر ممشى الحديقة المهجورة.. ينفتح باب الدوار الجهم بالمفتاح الفرعونى، أخوض بقدمى فى ردهة صغيرة، فإذا بصحن الدار وجدتى العجوز ذات الملامح التى يحملها أبى.. كهولتها سيطرت على مسار التجعيدات وحفر النتوءات والجبهة العريضة والأنف الدقيق والعيون الحمراء الضيقة والشعيرات البيض تخرج من تحت غطاء رأسها الأسود.. وجلستها بقامتها القصيرة وبشرتها البيضاء على مقعد خشبى تضم فخذيها وتصل بأقدامها حتى حذاء أخضر..

الدار ساكنة مهجورة..

وتكعيبة العنب ميتة كالحطب..

وأعشاش الحمام فارغة..

والسلم المؤدى للسطح مكسور..

وجدتى ترتدى جلبابها الأسود الداكن..

اقتربت منها..

– ساعة الطلوع كتبوا على العتبة..

يا ترى نيجى.. ولاَّ نموت غربا.

رن العديد يرثينى.. من فمها الذى يتحرك ببطء الموت الوافد.. وحزن يقطع القلب على الحفيد..

أجدنى نائمًا على مائدة خشبية مستطيلة أمام جدتى عارى الجسد إلا ما يستر العورة، وقد تحلَّقت حولى نسوة فى ثياب سود، وقد ملأن جوانب الدار، جلسن على الأرض العارية ووقفن مستندات على الحوائط الباردة.. وجدتى صامتة تبكى.

ساعة اللى جرى ياريتك حضرتينى

الغربة يا امّة تعدلنى وتكفينى

وتندب جدتى حفيدها بصوت مبحوح..

يا حكيم اكشف على أمراضى

واطلب من الله أموت فى بلادى

وتجيب النسوة المتحلقات.

نادى المنادى وطوَّح النبوت

روح بلادك يا غريب لا تموت

نادى المنادى وطوَّح الحربة

روح بلادك يا غريب أبقى

وقامت النسوة فوقفن على رأسى.. وعلا صواتهن واشتد نحيبهن..

– ليه يا غريب ما مت فى واديك شيعتك كبيرة يعززوك أهليك

وفزعت جدتى.

وقفت ملتاعة.

واستندت إلى كتف سيدة دامعة..

اقتربت من واحدة تقف مبتعدة.

– بت البحيرة ما عندكيش ولوع قيدى الفتيلة للغريب موجوع

شعرت جدتى جمودًا مفاجئًا من البنت التى خبَّأت وجهها فى طرحتها.

– بت البحيرة يا لابسة الطرحة أمانة عليكى تعطى الغريب صرخة

– بت البحيرة طلّت من الحيطة أمانة عليكى تعطى الغريب عيطة

مزَّقت جدتى طرحة البنت..

لم أعرف ملامحها لكنها أدركتها.. أدركت مى..

فأطلقت الجدة صرخة مدوية خارقة اهتزَّت لها النسوة فاستجبن فى عديد جماعى.

– بت البحيرة رجعى بابك نعش الغريب فايت على دارك..

وشعرت باب مكتب مى.. دفعته بكفها فانغلق محكمًا وأدارت فيه المفتاح..

لمحت من الزجاج المخربش، وجهها منشغلاً فى كتابة متميزة على جهاز الكمبيوتر، أغمضت الجدة عينىَّ المفتوحتين.

نامت على صدرها بخدّها.

قبَّلت جبهتى بشفتيها الباردتين.

وغبت.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى