رمضانيات

الشيخ محمد رفعت.. أكثر أصوات المقرئين ثراء.. مات فقيرًا

229208_0

عندما توفى الشيخ محمد رفعت سنة 0591 نشرت جريدة «المصرى» أكثر الجرائد انتشاراً فى ذلك الوقت على صدر صفحتها الأولى عنواناً رئيسياً يقول «سكت البلبل الصداح».

قيل عنه.. إذا أردت أحكام التلاوة فالشيخ محمود الحصرى، وإذا أردت حلاوة الصوت فالشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وإذا أردت النفس الطويل مع العذوبة فالشيخ مصطفى إسماعيل، وإذا أردت هؤلاء جميعاً فالشيخ محمد رفعت.

نشأ الشيخ محمد رفعت فى حى «البغالة» بالسيدة زينب فى عام 1882م. ولما أكمل سنواته الأولى أحضره والده محمود بك الذى كان يعمل ضابطاً بالبوليس المصرى ليتعلم التلاوة فى كتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز مثل أقرانه من المكفوفين. غير أن الشيخ رفعت تألق فى مسجد فاضل حيث اعتاد التلاوة منطلقاً بين عامة الناس والباعة الجائلين فاستمد منهم نبرات صوته فخرج مشحوناً بالألم والأمل، عنيفاً كالمعارك التى خاضها الشعب.. ومن هنا عرف بأنه «صوت الشعب». وقيل عنه فى مجلة المصور سنة 1949، إن دموع قلبه كانت تجرى فى نبرات صوته.

وعند قيام ثورة 1919 مثل سعد روح الشعب الصلبة، وسيد درويش راح يلحن صيحات الشعب السياسية، ولحن الشيخ رفعت حياة الشعب الروحية، ولعذوبة صوته كان الناس يفترشون الشوارع المحيطة بالمسجد كلما تلا، ولم يكتف الشيخ رفعت بما لديه من موهبة بل تعمق فى دراسة علم القراءات والموسيقى خاصة موسيقى بيتهوفن وموزارت وفاجنر، وذخرت مكتبته بعدد من الكلاسيكيات السيمفونية العالمية يقضى أسعد أوقاته فى سماعها.

وتلألأ صوت الشيخ رفعت وسط جيل من رواد الموسيقى على حد قول الكاتب محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء».

كما ذكر كتاب «رمضان من الزمن الجميل» للكاتب عرفة عبده، إن أجر الشيخ محمد رفعت كان وقتها خمسين قرشاً فى الليلة، وكان صوته يأخذ ألباب الملايين فى الأفراح والمآتم والسهرات، وأصبح رمزاً لشهر رمضان الكريم فعند سماع تلاوته ينتقل الناس بأرواحهم إلى الأجواء الروحانية الرمضانية وهم فى انتظار انطلاق مدفع الإفطار.

وعند البث الإذاعى الأول فى مصر طلب الشيخ لافتتاح الإذاعة الحكومية بصوته فى الساعة السادسة وأربعين دقيقة مساءً نظير أجر قدره ثلاثة جنيهات، واستمرت التلاوة ربع ساعة على الرغم من أنه كان متردداً فى بادئ الأمر على اعتبار أن تلاوة القرآن لا تليق مع عرض الأغانى، إلا أنه وافق بعد استطلاع رأى عدد من العلماء والمشايخ فى هذا الأمر، وحصل على فتوى تبيح تلاوته لينطلق صوته عبر الأثير ويدخل كل بيت بل يمتد لإذاعات العالم كإذاعة برلين ولندن وباريس خلال الحرب العالمية الثانية من (1939 – 1945)، وتنافست تلك الإذاعات على الشيخ رفعت لافتتاح برامجها غير أنه اعتذر، كما رفض عرض أبخل وأغنى رجل فى العالم «عثمان حيدر أباد» بأن يذهب للهند مقابل 15 ألف جنيه، ولما رفض تم زيادة المبلغ إلى أن وصل إلى 45 ألف جنيه غير أن الشيخ لم يهتز أمام هذا المبلغ بل أصر على الاعتذار قائلاً: «أنا لا أبحث عن المال أبداً، فإن الدنيا كلها عرض زائل»..

عشق صوته كثير من غير المسلمين، حيث قال عنه الفنان نجيب الريحانى إنه كان يستمع إليه حتى يبكى وإذا أطال الشيخ كان يتصل الفنان بالمسرح يطلب تأجيل رفع الستار حتى ينتهى الشيخ من تلاوته.

أما مكرم عبيد باشا فكان صديقاً للشيخ ودائماً ما كان يتباهى بأنه تعلم على صوت الشيخ رفعت.

وأمام جامع فاضل باشا – الذى اشتهر بين عامة الناس بجامع الشيخ رفعت- كان الترام يمر بشارع درب الجماميز وكان سائقو الترام ومعظمهم من الأقباط يتوقفون برهة لملء آذانهم بمقتطفات من صوت الشيخ. ومن شهود مجالسه الفنان عبدالوهاب، وقال عنه إنه يتسم بالذكاء وخفة الدم وقدرته على تقليد أصوات الباعة فى نداءاتهم.

ولما ذاع صيته وانتشرت تلاوته قدم عدد من المقرئين شكوى للإذاعة فى مارس 1938 مطالبين بمساواتهم فى الأجر مع الشيخ رفعت وعدم تلقيبه وحده بـ«الأستاذ»، وكانت المفاجأة التى تدل على سماحة الشيخ بأن أيد مطالبهم ورحل عن الإذاعة، ولم تمر أيام قلائل حتى انهالت آلاف الرسائل تطلب عودته أغلبها من الأقباط ..وبسبب الضغوط من محبيه عاد للإذاعة مواظباً على التلاوة، وكان يتقاضى عن كل مرة اثنى عشر جنيهاً.

وعرضت عليه وزارة الأوقاف نقله إلى أحد المساجد الشهيرة بالقاهرة يختارها بنفسه غير أنه اعتذر بأنه لا يستطيع مفارقة مسجد فاضل باشا الذى ألفه وألف ناسه.

وحدث أن طلبت منه إذاعة لندن تسجيل شريط مقابل مائة جنيه وخمسة جنيهات عن كل مرة يذاع فيها الشريط، غير أن المرض اشتد عليه خاصة مرض «الزغطة»، التى كانت تصيبه كلما جلس وأعاقته عن التلاوة، فى تلك الأحداث الحزينة حصلت محطة الإذاعة المصرية على نسخة من الشريط الذى سجل لمحطة لندن ودفعت خمسة جنيهات عن كل مرة يذاع فيها. وهذا المبلغ البسيط كان هو مورده من الإذاعة طوال فترة مرضه فى منزله بشارع يحيى بن زيد بحى السيدة زينب.

وحاول بعض أصدقائه ومحبيه جمع الأموال لمساعدته ولكنه أبى أن يكون ثقيلاً على الآخرين واكتفى بمعيشة بسيطة والاحتجاب عن الأنظار حتى قامت مجلة المصور بإجراء حوار معه سنة 1949 وهو الأمر الذى هز مشاعر وقلوب المصريين وأسفر عن جمع 108جنيهات و25 قرشاً، على الرغم من أن الحوار لم يكن فيه إشارة إلى التبرع غير أن محبيه اشتاقوا إليه وحاولوا توصيل مشاعرهم بإرسال الهدايا والنقود والخطابات.

كما تأثرت الإذاعة بمرضه وقررت إذاعة شريط له مرتين أسبوعياً بعد أن كانت تذيع له مرة واحدة فى الشهر، وفرح الشيخ محمد رفعت لكل تلك الأحاسيس الجميلة ولكنه رفض مطلقاً قبول أى هدايا أو تبرعات مادية قائلاً: «عشت طول حياتى بكرامتى ويكفينى السؤال» على الرغم من أن إيراده فى ذلك الوقت لم يزد على 32جنيهاً من إيراد الدكاكين، التى يملكها فى المنيرة وما يأتيه من الإذاعة.

وفى التاسع من مايو 1950 نعى المذيع اللامع عبدالوهاب يوسف الشيخ رفعت إلى شعب مصر فى الإذاعة المصرية، ولم يستطع أن يملك زمام نفسه فبكى أمام الميكروفون، وأسرع أنور العشرى ليكمل قائلاً: «فقدنا اليوم صاحب الحنجرة الفريدة التى امتلكت قدرة فائقة على إيصال أعذب وأنقى الأصوات إلى الناس».. وهكذا عاش الشيخ محمد رفعت بريقاً كالذهب قوياً فى صوته صابراً على مرضه شاكراً كل من أحبه.

المصدر

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى