أعمدةمقالات

بلال فضل | يكتب : معقولة هشام مات!

 

بلال فضل صديقى هشام عكاشة مات.. قتله الإحباط وهو فى عز شبابه، فاللهم لا اعتراض.

كانت آخر مكالمة جمعتنا للأسف قبل أشهر، فقد أصبحت السرعات الإضافية التى تم إدخالها على مطحنة الحياة تمنعنا كثيرا من التواصل مع من نحب، يومها فوجئت باسم والده عميد الدراما العربية أستاذى الحبيب أسامة أنور عكاشة يضىء شاشة الموبايل، لست ممن يحذفون اسم عزيز أو صديق رحل أو أغير اسمه باسم من يستخدمون موبايله من بعده، ربما لكى أستمتع باللحظات التى أرى فيها شاشة الموبايل تحمل أسماء من أحبهم فأسعد ولو للحظات بتوهم أنهم ما زالوا أحياء وأننا سنلتقى عقب هذه المكالمة، لكن هشام كان دائما يكلمنى من موبايله الشخصى ولم يكلمنى من قبل عبر موبايل والده فما الذى جعله يفعل ذلك هذه المرة؟، بدأت ردى قائلا «كنت عارف إنك مش هتستحمل الموت وهترجع تانى ياعم أسامة»، ففوجئت أن هشام ظل صامتا قبل أن يقول بصوت مخنوق «خفت أكلمك من تليفونى فما تردش زى ناس فقلت أكلمك من تليفون بابا لأنك أكيد هترد»، صعقنى كلامه فأقسمت أنه لم يحدث أن رأيت منه مكالمة ولم أرد عليها، وأننى لا يمكن أن أتجاهل أبدا مكالمة منه ليس فقط لما لوالده من جمايل وأفضال، بل لأنه كان وسيظل أخا غاليا أقدر فنه وإنسانيته وفكره.

كان هشام ما زال يعيش تداعيات أزمة استبعاده من مسلسل تليفزيونى تعاقد على إخراجه بل وبدأ تنفيذه، ثم تواطأ البعض ضده واستبعدوه ليأتوا بمخرج آخر دون مراعاة لأن العمل ولد على يديه وكان يجب أن يكتمل على يديه، لكنهم قالوا له إن بطل العمل أصر على استبعاده لأنه لم يستلطفه، وأنه لا بد أن يأتى مخرج يرتاح له البطل لكى يلحقوا بشهر رمضان، ورغم أن ذلك لم يكن قرارا سهلا، فقد قرر أن يوقف إصراره على أخذ حقه عبر النقابة لكى لا يسبب خسائر للعاملين الذين ستتوقف أرزاقهم لو توقف سير العمل.

لم تكن تلك المرة الأولى التى يتم خطف مشروع من بين يدى هشام ليذهب إلى مخرج صاحب نجاحات تجارية سابقة، كان يسألنى بمرارة: «يعنى معقولة شغل دول أحسن من شغلي؟»، مشيرا إلى بعض المخرجين الذين لا يتوقفون عن العمل ليس لبراعة فنية نادرة يمتلكونها بل لقدرتهم على تقفيل العمل فى أسرع وقت وفى أقل تكلفة ممكنة، وكنت أرد بكلام أبله من الذى تورده كتب التنمية الذاتية عن الضربة التى لا تقصم ظهرك والطاقة الإيجابية والفرصة التى تأتى فى موعدها، وهو كلام يصلح ربما للتطبيق فى البلاد التى تروج فيها هذه الكتب، لأن بها أصلا مناخا فنيا سليما وصحيا يقدم فرصا متعددة يحصل عليها الأكثر موهبة أو الأكثر اجتهادا، سألنى فى نهاية المكالمة عن مصير عملين مشتركين بيننا سعيت بهما لدى أكثر من منتج، فلم أقل له طبعا إن محاولاتى تحطمت كسابقاتها على صخرة جملة «ياعم شوف لنا حد يكون عمل حاجة كسرت الدنيا عشان نتبارك بيه، إحنا مش عايزين حد يجرب فينا لسه».

لم يعان هشام أبدا من عقدة النجاح الطاغى لأبيه، ولم يعش أعراضا متلازمة «قتل الأب» التى عانى منها بعض أبناء المشاهير، فقد كان يعيش مع والده نموذجا للصداقة الرائعة كان يغبطه الذين لم يجربوا حنان الآباء وعطفهم، كان عم أسامة يقدر جدعنة هشام وسعيه لصنع نفسه دون استخدام شهرة أبيه، لكن المشكلة أن الكثيرين كانوا يتعامل مع هشام كأنه لا يحتاج أصلا لأن يعمل بسبب نجاح أبيه الطاغى، حضرت موقفا قال فيه منتج عند ترشيح اسمه «هو هشام محتاج يشتغل أكيد أبوه الله يرحمه سايب له فلوس كتير فلان ده أولى ومحتاج فلوس»، حاولت دون جدوى أن أشرح للمنتج ما تصورت أنه يدركه، وهو أننا نعيش فى بلد لا تعترف بحق الأداء العلنى للمؤلف الذى كان يمكن بفضله أن يعيش أحفاد أحفاد عم أسامة فى رغد وهناء كما يحدث لكل ورثة الكتاب والفنانين فى البلاد المتقدمة التى تحترم الملكية الفكرية وتقدر المبدعين وتحتفى بهم، لكن فى بلادنا العربية حيث يعرض لأسامة أنور عكاشة مسلسل كل دقيقة فى كل قناة والتانية، لا يستفيد ورثته من ذلك مليما واحدا بل تستفيد القنوات فقط من حقوق الإعلانات التى تجنيها بفضل التفاف الناس حول أى عمل يحمل اسم أسامة أنور عكاشة الذى يعنى اسمه على أى عمل ضمانا أكيدا بالبهجة والمتعة. للأمانة، لم يحدث أن شكا لى هشام من أزمة مالية، لكنه شكا لى ولغيرى كثيرا من أزمته الأكثر إيلاما وهى عدم قدرته على تحقيق مشاريعه التى أجهضتها عقلية اللعب فى المضمون التى تفضل اختيار الشخص الذى نجح مرارا وتكرارا، على إعطاء الفرصة لمن لم يوفقه الحظ فى النجاح من قبل، مع أنه ربما لو حصل على الفرصة المناسبة لفاجأ الجميع بنجاح أكبر.

فى آخر مرة التقيته، هالنى أن هشام بدا أكبر سنا عن آخر مرة تقابلنا فيها، خشيت أن يكون مريضا، لكنه وهو يطمئننى على صحته بدا أنه مرهق نفسيا، مرهق جدا لدرجة لن تجعله قابلا لسماع أى كلام عن أهمية الحفاظ على الصحة من أجل الفرصة القادمة، فرحت عندما قال لى إن الأستاذ نور الشريف وعده بأن يسند إليه عملا جديدا، لكنه عقّب بمرارة «على الله بقى المنتجين ما يوقفوش فى الموضوع زى كل مرة»، فأخذت أردد كلامى المعتاد وأخذ يستمع دون اكتراث، تركته وأنا حزين، وتذكرت زيارتى الأخيرة مع عمنا صلاح السعدنى للعم أسامة فى بيته وكان وقتها يصارع بفروسية آلام المرض الخبيث، وكان من ضمن ما حدثنا عنه قلقه على هشام الذى أصر الاثنان معا على أن ينجح هشام دون أى دعم من أبيه، وتمنياته أن يتغير هذا الوضع بعد أن يموت فيتعامل معه الناس بمعزل عن هالة أبيه الساطعة، لكن الموت خطف هشام قبل أن تتحقق أمنية أبيه، تاركا خلفه ذكرى عطرة وألما فاجعا يملآن صدور محبيه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الله يرحمك يا هشام، والنبى لما تشوف عم أسامة سلم لنا عليه.

الفاتحة أمانة

 

 

 


Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى