ثقافة و فنمنوعات

ذكرى رحيل أبو العينين شعيشع .. قارئ البدلة والطربوش

شعيشع

قال خبراء «علم التلاوة والمقامات القرآنية» عن صوته: «كان مجموعة من الأصوات المعبرة المتزامنة المتوافقة المتناغمة، تخرج في وقت واحد، كأنما تعزف على تخت كامل»، وقالوا أيضا: «ما إن نسمع صوت الشيخ أبو العينين شعيشع في وقت العصارى الذي خصصته الإذاعة لتلاوته إلا ونشعر بنسيم قرآنى هب ليلمس أرواحنا».

بداية «شعيشع» في «دولة التلاوة» كانت داخل «كُتاب» مركز «بيلا» بمحافظة كفر الشيخ الذي حفظ فيه القرآن خلال سنتين، وشهد اكتشاف روعة صوته من قبل شيخه «يوسف شتا» الذي سمعه «يدندن» القرآن مع رفقائه، ليتنبأ له بمستقبل قرآنى عظيم، ويوصى أهله بذلك، خاصة أن والد «الشيخ» المتوفى كان يرغب في أن يكون ابنه «ضابط بوليس».

قبل أن يصل لعمر ١٤ عاما كان «شعيشع» يلحق بكل المقرئين والمشايخ حتى قال عن نفسه متحدثا عن تلك الفترة: «كنت أنام أسفل دكة المقرئ حتى ينتهى من تلاوته»، لتبدأ شهرته بعدها تزداد يوما بعد يوم، ويدعى لإحياء ذكرى «شهداء المنصورة»، ويفاجئ الحضور بالدخول إلى ساحة الاحتفال مرتديا «البدلة والطربوش»، وما أن يبدأ في تلاوة: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتا» إلا وجذب إليه أفئدة الحاضرين قبل أسماعهم.

بعدها بثلاث سنوات دعى لإحياء مأتم «الشيخ الخضري» أحد كبار علماء الدلتا آنذاك، فاستمع إلى تلاوته الشيخ عبد الله عفيفي، الذي شغل منصب المحرر العربى بديوان الملك فاروق، ثم صار إمامًا للملك، فدعاه إلى الالتحاق بالإذاعة، ثم نسق له لقاء مع سعيد باشا لطفي، مدير الإذاعة آنذاك الذي حدد له موعدا للاختبار.

أمام لجنة «امتحان الإذاعة» التي ضمت: «الشيخ أحمد شوريت، والدكتور إبراهيم مصطفى عميد كلية دار العلوم، والشيخ المغربي، ومصطفى رضا مدير معهد الموسيقى»، قدم «شعيشع» أداءً مذهلًا، منحه تعاقدا مع الإذاعة ليصبح أصغر قارئ فيها بعمر ١٧ عاما ١٩٣٩.

في أعقاب «ثورة يوليو» واجهت مسئولى الإذاعة ورطة كبيرة تمثلت في «تلف» معظم تسجيلات الشيخ محمد رفعت التي أصبحت بفعل الزمن غير مكتملة، وبها بعض الأجزاء «الناقصة»، ما دعاهم إلى الاستعانة بصوت الشيخ «أبو العينين شعيشع» أقرب الأصوات لصوت «قيثارة السماء» وأقدرها على الوصول إلى طبقته «الملائكية» بتشابه لا يستطيع إدراكه سوى «عالم بأمور التلاوات والمقامات».

يحكى «شعيشع» عن علاقته بالشيخ رفعت، فيقول: إن أحد الأشخاص أخبره بأن أناسًا قالوا للشيخ رفعت: «في واحد طالع جديد بيقلدك»، فأجاب على الفور: «عارفه وباسمعه واسمه أبو العينين شعيشع»، ليتوجه بعدها «شعيشع» إلى قدوته في «دولة التلاوة» مقبلًا رأسه فرحا بتلك «البشرى» وبسماع «رفعت» لتلاوته.

أثناء سفره إلى يوغوسلافيا لقراءة القرآن في مقاطعة «سراييفو» التي يقطنها نحو ٣ ملايين مسلم، نزلت الطائرة في مدينة «ميونيخ» الألمانية، ليفاجأ بإجراءات أمنية مشددة ضد العرب، وأوقفوه ظنا منهم أنه «متشدد وقائد متطرفين»، ولم ينقذه من أيديهم إلا اليوغوسلافى «كوكيزا» مدرب الزمالك حينها الذي عرف سلطات المطار بشخصية «شعيشع» ليتركوه بعدها.

وفى إحدى الليالى الرمضانية داخل «قصر عابدين» كان «شعيشع» يرتل القرآن بصحبة أستاذه عبد الفتاح الشعشاعي، ليفاجآ برئيس الديوان الملكى يخبرهما بأن الملك فاروق قرر منحهما «وساما شرفيا» في «ليلة القدر»، ليفاجأ يومها بذهاب «الوسام» لكوكب الشرق أم كلثوم!
يحكى الكاتب الصحفى أحمد البُلك في كتابه: «أشهر من قرأ القرآن في العصر الحديث»، قصة طريفة عن الشيخ «شعيشع» تقول: إن إذاعة «الشرق الأدنى» ومقرها فلسطين دعته إلى قراءة القرآن من المسجد الأقصى ظهر جمعة أحد أيام عام ١٩٤٠، وكان عمره ١٨ عاما. بعد وصوله فلسطين وبقائه هناك لأيام قرر سحب جواز سفره والعودة إلى مصر مرة أخرى، وبسؤاله عن السبب قال: «والدتى وحشتني.. مش هاقدر أبعد عنها أكتر من كده!»، وبمجرد وصوله إلى القاهرة أدار مفتاح إذاعة «الشرق الأدنى» ليأتيه صوت مذيعها: «نحن في انتظار القارئ أبو العينين شعيشع» ليفاجأ مسئولو الإذاعة بأن «الشيخ شعيشع» غادر فلسطين.

دائما ما ارتبط الشيخ «شعيشع» بارتداء «البدلة والطربوش»، بطريقة اختلفت عن مقرئى عصره، وفى إحدى سفرياته إلى تركيا لإحياء «ليلة رمضانية» هناك فاجأه القنصل المصرى بقوله إن السلطات التركية تحظر ارتداء «الطربوش» حتى لأئمة المساجد، إلا في وقت الصلاة، ليلجأ «شعيشع» إلى «لف» شال أبيض كان بحوزته على «الطربوش»!

كان «شعيشع» لا يمكث في «مقام قرآني» واحد، ولا يكتفى بنغمة واحدة وإنما يؤدى وكأن صوته «دوحة من الانتقالات النغمية»، تميز بانتقاله من مقام لمقام دون مدرس أو معلم، مع الاحتفاظ الكامل بأحكام التلاوة، بطريقة سماعية صاغتها الموهبة.

تميز أيضا بمهارة فائقة في الانتقال من النغمة الحادة إلى المنخفضة، وقدرته على تصوير المعنى القرآنى بطريقة فنية تصويرية، فقراءته لآية: «هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ» يلبسها نغمات وأداء مقاميا يظهر هذا الاستفهام ويبينه، وهو ما رافقه في رحلة قرآنية استمرت طوال ٨٨ عاما وانتهت بوفاته في ٢٣ يونيو ٢٠١١.

المصدر

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى