مقالات

عبدالغني الحايس | يكتب: القرية المنسية

 

الحايس 2

 

فى تلك القرية البعيدة الهادئة والمطمئنة بوحدة قاطنيها ولدت ترعرعت على ان جميع من حولى أهلى عمى أوخالي، الجميع يعرف بعضهم البعض فهناك علاقات نسب ورحم يعيشون في حالة من التكافل والترابط وكأن حياتهم يشكلها دستور مبجل ينصاع له الجميع فى كل شئون حياتهم فى السراء والضراء ترى تكافلهم وتماسكهم والتزامهم .
كانت تبهرنى تلك الحياة عندما نجتمع حول الطبلية فى مواعيد ثابتة لا تتغير ابدا ويحترمها الكبير والصغير وتسمع صوت أمى تنادى بان نذهب لنقوم بالعملية اليومية من تبادل أطباق الطعام مع جيراننا وقت العشاء أو ترسل لنا جارتنا التى تملك بقرة تحلبها بكوب من اللبن يوميا حتى نتناول الافطار .أو ان تراهم جميعا فى حقل الحاج خالد وغدا فى حقل الحاج حمامة وبعدها فى حقل اخر يراعون زروعهم فى محبة متناهية .

وبعد صلاة العشاء يتزاورون وتبدأ لحظات السمر وكل حكيهم عن الأرض والمحصول او الترتيب ليوم الغد من اعمال والذى يبدأ قبل اذان الفجر .

كنت أتعجب وانا طفل صغير من استيقاظهم مبكراً قبل شروق الشمس متحملين برودة الشتاء ووهج الشمس صيفا الذى لفح وجوههم واشربها سمرتة .

تعودنا على ذلك الجو وتلك الحياة كان أبى لا يستطيع النوم قبل أن يشاهد نشرة التاسعة ويسمع حديث الروح للدكتور عبدالله شحاتة الذى كان يحبة وينتظر أحاديث الشيخ الشعراوى والراديو دائماً على إذاعة القرآن الكريم .

تعلمنا في كتاب القرية وحفظنا القرآن الكريم قبل أن نذهب الى المدرسة كانت تجمعنا لمبة الجاز نلتف حولها بكل سعادة لنذاكر دروسنا ونكتب واجباتنا حتى وصلت الكهرباء والمياة الى بيوتنا كانت الحياة تتطور ولكن بقيت فينا أخلاق آبائنا وأجدادنا .

كنت أرى القرية عن بكرة أبيها وقت أن يكون هناك فرح لأى فرد من أبناء القرية، وخصوصاً ليلة الحناء حيث يذهب الكل إلى تقديم النقوط إلى العريس والعروسة .

وحتى فى مناسبات العزاء يتسابق الجميع لتقديم واجب الضيافة إلى المعزيين من القرى المجاورة وتكون البيوت كلها مفتوحة دائما ويصل الامر ان يتم تأجيل حفلات الزفاف تضامنا مع اهل المتوفى قريبا كان أو غريب .
وضربت القرية بأهلها أروع الأمثلة فى التلاحم والتعاون والتكافل والترابط الإجتماعى، تربى الجميع على كرم الأخلاق وحسن الضيافة والقيم وتوقير الكبير والعطف على الصغير .
كانت القرية هادئة برغم بساطة الحياة وخشونتها وكان الفلاحين الشهداء الأحياء تملأ قلوبهم القناعة والرضا والطمئنينة يحمدون الله على القليل والكثير .
وعندما أعود إلى القرية اليوم لم أجد القرية التى كنت أعرفها فقد زحفت المدينة على القرية وسلبت منها هدوئها بعد أن هاجر الشباب من الريف الى المدينة هربا من العمل فى الحقول والبحث عن فرص عمل وخلع جلباب أبائهم تنصلا وهربا وتغييرت التركيبة الإجتماعية للقرية تبدلت القرية من حال الى حال .وبدات الروابط الإجتماعية المترابطة فى التفكك حتى على مستوى الأسرة الواحدة .ولم يعد هناك احترام للكبير ولا توقير وغاب رجل القرية الأبوى والتى كانت كلمتة حد سيف على رقاب الجميع .
وتجرأ الجيل الجديد و تمرد على كل شىء وأى شىء حتى الحياة نفسها فى القرية ووسط انصياع من الأباء لأبنائهم والذين فقدوا السيطرة عليهم لتجرأهم على كل القيم والتقاليد وصلت الى حد السخرية منهم بانهم يعيشون فى القرون الوسطى . ومع تجرأ الأبناء على الأباء بعد استقلالهم المادى وما بين تفتيت متزايد للارض وتبور وهروب من العمل فى الحقول والسفر الى حتى خارج الوطن للبحث عن رزق افضل لبناء البييت والزواج .
واليوم لم يعد غريبا أن تسمع أن فى القرية حوادث اغتصاب وسرقة وقتل واتجار فى المخدرات وتعاطى مخدرات وكل الموبقات أصبحت موجودة والجريمة أصبحت شىء عادى وقبل ذلك كانت منعدمة تماماً .

ويصيبنى الصمت وادرك الإحباط على ما وصل الية حال القرية اليوم من تردى فالبعض يقول ان ذلك مدنية وتطور وان تلك سنة الحياة هى التغيير ولم يدركوا ان هناك قيم ثابتة ومبادىء متأصلة لا تتجزأ حتى لو كنت تعيش فى العاصمة نفسها وأن ذلك إرث اجتماعى وحضارى كما الجلباب البلدى الذى لا أستطيع أن ألبس غيره بمجرد وصولى إلى البيت، فهنا جذورنا وامتدانا ويجب ان تورث عادتنا الأصيلة الى الأجيال جيلا بعد جيل.
والأمر الأصعب انه بعد ثورة يناير ووصول الإخوان للحكم ثم الإطاحة بهم تاهت القرية فى أعماق الدروب السحقية وانقسم الجميع مع وضد وتقطعت الأرحام وتطاول البعض على البعض وغاب الحب والود وكثر الخلاف والإختلاف بعد حالة قوية من الإستقطابات مع وضد ولم يضعوا فى الإعتبار ان الإختلاف لا يفسد للود قضية ولكن هذا الإنشقاق نسف كل ود وهدم القضية .

رأيت اخ ينفصل عن أخيه وأب يطرد ابنه من البيت وزوج يطلق زوجته وعلاقات تنقطع وروابط تتمزق بسبب خلاف سياسى .

اليوم أصاب القرية ما أصاب المجتمع المصرى ولكن الأمر عندى يختلف فالقرية يعرف الجميع بعضهم البعض عكس المدينة .
أيها السادة أيها الشيوخ الأجلاء يها السياسيون والمثقفون والمعلمون يا كل رمز ثقافى واجتماعى وسياسى وإعلامى يا أولي الأمر أنقذوا القرية قبل فوات الأوان ففى انقاذ القرية انقاذ للمجتمع ككل .
فالقرية هى أساس المجتمع أنقذوا شبابها من الإستقطاب ومن الوقوع فى براثن الجريمة والإرهاب فهم صيد ثمين للوقوع فى الخطأ لا عن جهل ولكن بقى فى جذورهم طيبة وشهامة ولكن يتم توجية حماسهم وانفعالاتهم إلى شىء غير محمود
أريد قريتنا كما كانت وكما أحببتها وأريد شبابها بأخلاقها ، حفظ الله الوطن

أحمد الدويري

كاتب صحفي منذ عام 2011 ، أكتب جميع أنواع قوالب الصحافة، تعلمت الكتابة بشكل جيد جدًا من خلال موقع الشرقية توداي الذي انضممت له منذ عام 2012 وحتى الآن
زر الذهاب إلى الأعلى