أعمدة

عمار على حسن | يكتب: صوت الفجيعة

عمار علي حسن

شحرت العربة وغرست عجلاتها الأمامية فى الرمال، تطلعت هناك فى البعيد، فامتلأت عيناى بصفار الكثبان الرملية. ولما اندكت العربة دكاً نثرت ذرات فوق أهدابى التى أتعبها سهر الليلة الماضية. كانت الصحراء مفتوحة على الليل الأسود المثقوب بين الفينة والأخرى بألوان صفراء وحمراء وزرقاء لنيران العدو.

سقطت ذرات الرمل السافى على ركبتىّ حين نفضت جبهتى، لكن اثنتين فقط تسللتا إلى المقلتين فانطلقت نيران أخرى فى رأسى. مددت يدى لأدلك المقلتين والجفنين والأهداب. أخمشها بأظافرى الطويلة لعلها تطفئ النار، أو تعيد إلى عينى النور، فأعرف أين نحن الآن، بعد أن انقطعت بنا السبل، وجنودنا هناك ينتظرون ما معنا من ذخيرة ليملأوا الميدان رقصاً ببنادقهم التى تجندل أجساداً لجنود العدو الذين قتلوا كثيرين منا بالأمس، بعد أن وهنت نيراننا أمام ذخيرتهم العامرة.

كانت أصابعى باتجاه رأسى، وأظافرى باتجاه المقلتين تفتش فيهما عن ذرتين من رمل هائج يبتلع نصف العربة ونصف الأمل فى الوصول إلى الجنود. ها هو ظفر السبابة يتجه إلى العين اليمنى، وظفر الإبهام إلى العين اليسرى. ينفتح الجفنان، والظفران مستمران فى البحث. الأول حاد يخمش بقدر ما سب أولئك الذين ألقوا بنا فى معركة لم نستعد لها. والثانى على الوتيرة نفسها التى عليها السائق القابع بجوارى، إذ يفيض اليأس من راحتيه اللتين دفعتا العربة من الخلف والجانب والأمام لتخرج من الرمل اللجى من دون جدوى، فجلس صامتاً يحملق فى التباب المتلاحقة، بعد أن ترك لى عجلة القيادة ممنياً نفسه أننى سأستطيع أن أفعل الشىء الذى لم يتمكن هو من تحقيقه. كان يحملق ما وسعه فى الصحراء الممتدة بلا نهاية، وعلى شفتيه ترتسم ابتسامات غامضة لم أعرف كنهها. لكننى لم أعبأ بشىء سوى حبة الرمل التى توغلت فى مقلتى.

ها هو ظفر السبابة يكاد أن يزيح ذرة الرمل، وظفر الإبهام لا يزال يفتش عنها فى ساحة المقلة. يحفر ويحفر، ويترك وراءه وجعاً يمتد إلى كل الرأس. إلى الفم فيصرخ، وإلى الأذنين فلا تسمعان صفير الريح خارج العربة، وإلى روحى فتنخلع من مكانها.. تنخلع، وأنا الذى لم أكن أرى شيئاً منذ دقائق رأيت أشياء بعينى اليمنى التى تمكن ظفر السبابة من تخليصها من ذرة الرمل التى أطفأتها لدقائق. رأيت دماء تبرقش «الأفرول» وتنسكب على الذراع، وتلطخ العين اليسرى للسائق، وتسيل فى أرضية السيارة. تفلت من بين جوانب باب العربة وتلون الرمل. وضعت راحتى وقلت للسائق:

ـ ضع راحتيك على عينى اليمنى لتغلق نافورة الدماء.

جثا على ركبتيه، ووضع كفيه فوق عينى والدم ينهمر من أصابعه. رفع صدره وطبعه فوق رأسى والدم يتفجر من تحت إبطيه، ويسيل ليجرى فى فجاج الرمل. رفعنى وانزلقنا خارج العربة، وراحتاه فوق عينى. كان يملأ كفيه بالدم، يفرغهما سريعاً ويعود إلى عينى. وربما فى المرة العاشرة بعد المائة الثانية صرخ وهو يرى شيئاً يلمع فى الدم المختزن بين كفيه، وملأت صرخته جنبات المكان، ثم راح يقهقه ما وسعه ويقول:

ـ ليست ذرة رمل.. إنها صورة الموت فى قعر العين البعيد.

ـ أنت تهذى.

ـ وأنت تتوهم أن هناك شيئاً فى عينك.. ليس هناك سوى جنود مدججين بالسلاح سيأتون بعد قليل ليقتلونا.

ـ والدم.. والألم.

ـ دم إخواننا الذين قتلوا وهم ينتظرون المدد.. ودمنا الذى سيسيل بعد قليل.

ـ وملابسنا التى لطخها الدم، والرمل الذى تبرقش به.

ـ لا أرى ملابس ولا رمل.

ـ مسك الجنون.

ـ بل أدركت الحقيقة.

ـ لقد ضعت منى.

ـ ما أجمل أن نرقص معاً.. هنا فوق هذا الماء الرقراق.

ـ لكننى لا أرى ماء.

ـ لو كنت ترى لأدركت أن عينك سليمة.. ها أنا أراها سليمة لم يمسسها سوء.. ها هى تلمع فى الماء المنساب من تحت أقدامنا.

ـ الماء مرة أخرى.

ـ سنلقى بجسدينا فيه بعد أن يملأهما الرصاص.

ـ رصاص.

ـ لن أدع الموت ينتظر كثيراً.. سأخلع ملابسى استعداداً للرصاص.

ـ بل سنحاول الخروج من هذه الورطة.

ـ أى ورطة؟

ـ العربة الهامدة والذخائر المعطلة والرفاق المنتظرون..

ـ العربة ماتت وأنا سأموت جانبها.. أنا لا أخاف الموت.. مرحباً به.. سأذهب إليه.. هاها.. هاها..

ـ هذه سخافة فى وقت لا يحتمل سخافات.

ـ بل هى الحقيقة الجلية.. كلنا إلى ذهاب.

وراح يخلع ملابسه، حتى تجرد منها تماماً، ثم أخذ يحفر فى الرمل بهمة غريبة حتى صنع أخدوداً غائراً، وألقى بجسده داخله، وأخذ يسحب الرمل على ساقيه الممددتين ويقول:

ـ بيدى لا بيد الأعداء.

 المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى