أعمدة

عمرو حمزاوي | يكتب : الروابط غير الميكانيكية

عمرو حمزاوى

أتابع اليوم تجديد طرح مجموعة من الأفكار التى سجلتها فى مساحات صحفية وأكاديمية مختلفة خلال الأشهر الماضية حول الروابط غير الميكانيكية بين آفات الإرهاب والاستبداد والتطرف والتخلف التى تنهك الجسد المصرى والجسد العربى.

أما مفهوم الروابط غير الميكانيكية، فيشير إلى كون مسببات وعناصر ونتائج الآفات الأربع تتصل ببعضها البعض وتؤثر فى بعضها البعض دون أن يعنى ذلك حضور علاقات سببية حدية من شاكلة «فقط الاستبداد يرتب الإرهاب» أو «فقط التطرف والتخلف والفقر هم معا وقود الإرهاب» أو «مواجهة الإرهاب تدفع إلى تآكل الحقوق والحريات وتبلور نظم سلطوية» وغير ذلك من مقولات متداولة فى مجالنا العام وفى المجال العربى العام. فالثابت هو أن الإرهاب ينشط أيضا فى بعض البيئات الديمقراطية ويتواجد فى مجتمعات حققت تطهرا جليا من التطرف والتخلف والفقر، بينما لم تتأذى الحقوق والحريات فى كل دولة واجهت الإرهاب وإجرام عصاباته ونجح الكثير من الدول فى الامتناع عن العصف بسيادة القانون أو إلغائها عملا بتمرير القوانين الاستثنائية.

خريطة بلاد العرب
إذا طالعناها، سنتثبت من أن الإرهاب يهاجم الأقاليم محدودة الكثافة السكانية، ونتيقن من أن التنظيمات الإرهابية تستوطن فى العراق وسوريا واليمن وليبيا والجزائر إما فى المناطق غير الآهلة بالسكان وإما تلك المأزومة حقوقيا وتنمويا ومجتمعيا إن بسبب طائفية مقيتة أو مذهبية متطرفة على نحو يجعل منها بيئات حاضنة للإرهاب والعنف، وندرك أن سيناء المصرية والمناطق على الحدود الغربية مع ليبيا على سبيل المثال تحتاج بجانب التوظيف الفعال للأدوات العسكرية والأمنية إلى تقوية وتنشيط التجمعات السكانية الحاضرة هناك والنظر فى مطالبهم الحقوقية والتنموية العادلة بهدف تعبئة طاقاتهم وجهودهم لمواجهة الإرهاب.

سنتثبت، ثانيا، من أن الانفجارات الإقليمية المتتالية تمكن الظاهرة الإرهابية من تجاوز حدود الدول الوطنية «بسهولة» والتنظيمات الإرهابية من الإفادة من مصادر تسليح وتمويل متنوعة، ونتيقن من أن كبح جماح الإجرام الإرهابى يستدعى تحالفا إقليميا ودوليا واسعا يحد من قدرة الإرهابيين على التنقل عبر حدود الدول الوطنية ويجفف منابع التسليح والتمويل ويمتنع عن «إحلال» تنظيمات إرهابية محل أخرى بغية تحقيق أهداف سياسية قصيرة المدى وضيقة الأفق أو عن التهاون فى مساعى تثبيت مؤسسات وأجهزة الدول الوطنية بمزيج من الحلول التنموية والمجتمعية والقانونية مع الأدوات العسكرية والأمنية، وندرك أن صناع القرار فى الدول العربية عليهم وضع تجفيف منابع تنقل وتسليح وتمويل الإرهاب على أجندة الأطراف الإقليمية وعلى أجندة الحرب الأمريكية الجديدة.

ثم إذا طالعنا خريطة النماذج العالمية الناجحة لمواجهة الإرهاب، سنتثبت من أن تعبئة التجمعات السكانية فى المناطق التى تهاجمها أو تستوطنها التنظيمات الإرهابية لدعم الجهود الرسمية والشعبية ضرورة وجودية وأن سبيلها الوحيد هو الحوار معهم ورفع المظالم عنهم عبر التطبيق العادل للقانون وللانتصار لحقوقهم مع مواجهة الإرهاب، ونتيقن من أن إعداد المسرح الإقليمى والدولى للتضامن بفاعلية مع جهود مواجهة الإرهاب يمثل أيضا شرط نجاح خاصة ونحن فى بلاد العرب نحتاج للتنسيق مع أطراف كثيرة لتجفيف منابع التنظيمات الإرهابية، وندرك أن تحصين الداخل العربى وإقناع الخارج القريب والبعيد بدعمنا له صلة وثيقة بفاعلية توظيف الأدوات العسكرية والأمنية وبفتح الباب واسعا أمام التضامن الشعبى والحوار المجتمعى الجاد لكى تطمئن ضمائر وعقول الجميع إلى حضور رغبة فعلية للمزج بين الأمن والقانون والحق والحرية وإلى حضور رؤية إيجابية وواضحة عن المستقبل والتنمية والتقدم والعدل الذى سيحملهم.

التمسك بالأضداد
لا هوية لكارهى الحياة وعصابات الإرهاب إلا القتل والذبح والحرق وارتكاب صنوف أخرى من الجرائم ضد الإنسانية، لا هدف لهم إلا إشاعة الخراب والدمار ودفع الناس والمجتمعات والدول إلى حروب الكل ضد الكل اللانهائية، لا برنامج لهم إلا تجريدنا من حب الحياة بنشر الفزع والخوف والإحباط وإلغاء قدرتنا الفردية والجماعية على رفض الهمجية والجهل والعنف التى يرفعون راياتها السوداء.

فى حدادنا وحزننا على ضحايا الإجرام الإرهابى، تظل مسئوليتنا الأخلاقية والوطنية فى بلاد العرب وثيقة الارتباط بالتضامن فى مواجهة الإرهاب وجرائمه التى تسيل دماء من يضحون بحقهم فى الحياة دفاعا عنا، وتطهيرا للأرض من دنس وحشية ودموية عصابات الإرهاب، وحماية لحقنا نحن فى الحياة وحق المجتمع فى الاستقرار وحق الدول فى التماسك.

لعقود طويلة، جردت نظم الاستبداد وجمهوريات الخوف فى العراق وسوريا وليبيا الدولة الوطنية من الشرعية واختزلت مؤسساتها إلى أجهزة عسكرية وأمنية واستخباراتية وإدارية تقمع المواطن وتنتهك حقوقه وحرياته وتعصف بحكم القانون وبقاعدة المساواة بين المواطنات والمواطنين دون تمييز، وكل ذلك بهدف وحيد هو بقاء الحاكم على كرسيه والحفاظ على امتيازات تابعيه ومستتبعيه والقضاء على معارضيه.

وعلى الرغم من أن خطط التحديث الاقتصادى والاجتماعى وبرامج التنمية وتحسين مستويات خدمات التعليم والصحة ورعاية الناس لم تغب عن جمهوريات الخوف فى العراق وسوريا وليبيا وتحقق بالفعل شيئا من تحسين الظروف المعيشية، فإن عوامل كتجريد الدولة الوطنية من الشرعية وتراكم المظالم والقمع والانتهاكات والعبث المستمر بمجتمعات جبلت على التنوع والتعددية ولم تجد من منظومات الحكم ــ السلطة سوى إنكار لهما وفرض للرأى الواحد وللصوت الواحد ولأبدية الزعيم ــ القائد ــ البطل ــ الرئيس الواحد وإبعاد للمواطن عن المشاركة الحرة فى إدارة الشأن العام رتبت إفشال خطط التحديث وانهيار برامج التنمية، وواجهت مؤسسات الدولة المختزلة إلى أجهزة للدفاع عن الحاكم المستبد بالتفتت كمصير وحيد، ولم تتح للحكام فرصة للانعتاق من بارانويا الخطر والخوف التى ضاعفت من الأموال المخصصة للأجهزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية وتحول معها كل مواطن إلى مشروع «متآمر» يتعين مراقبته المستمرة والاستعداد الدائم للقضاء عليه.

•••

غزت الولايات المتحدة الأمريكية وتحالفها الدولى العراق فى 2003، وأسقطت نظام الديكتاتور صدام حسين، ومكنت معاول الهدم والتفتيت من مؤسسات وأجهزة الدولة الوطنية، وسلمتها لحكم وعنف طائفية ومذهبية مقيتتين خلقتا معارضات طائفية ومذهبية ومتطرفة وعنيفة على شاكلتهما ــ انشطارات القاعدة المختلفة منذ 2003 وإلى اليوم، من جماعة الزرقاوى إلى داعش. إلا أن معاول هدم وتفتيت الدولة الوطنية فى العراق صنعها ووظفها الاستبداد، قبل أن يأتى التدخل الأجنبى غازيا ومحتلا. ولم تفعل طائفية ومذهبية حكام العراق الجدد إلا مواصلة سجل الديكتاتور الطويل من القمع والمظالم وانتهاك الحقوق والحريات والعصف بالقانون والمساواة والترويج لبارانويا الخطر والخوف، فقط تغيرت هوية الجلادين والضحايا. ولم يسفر لا استبداد وقمع الديكتاتور ولا الجيوش الأجنبية الغازية والمحتلة ثم المتمركزة فى قواعد عسكرية قريبة جغرافيا ومستعدة للقيام بمهام «الحرب على الإرهاب» ولا طائفية ومذهبية الحكام الجدد إلا عن القضاء على المعارضات السلمية والحركات السياسية الباحثة عن الديمقراطية.

وما يصح بشأن العراق، يصح أيضا بشأن سوريا التى يواجه به الديكتاتور الدموى المدعوم إقليميا ودوليا معارضة مسلحة على شاكلته تحصل أيضا على دعم إقليمى ودولى وبشأن ليبيا التى أعملت بها ديكتاتورية القذافى معاول الهدم والتفتيت بالدولة الوطنية ثم شوه التدخل الأجنبى انتفاضة شعبها طلبا للحرية.

•••

الاستبداد والتدخل الأجنبى يرتبطان بصناعة التطرف والإرهاب والعنف فى بلاد العرب، ولن ننجح أبدا فى «حرب على الإرهاب» تشنها الجيوش الأجنبية وتساندها نظم الاستبداد العربى التى مازالت تعجز عن إدراك الروابط الإيجابية بين الديمقراطية وبين الدفاع عن الدولة الوطنية. ولا خروج لنا كعرب من المتواليات السلبية لتغول القوى الدولية والأطراف الإقليمية غير العربية على مصالحنا ولاستباحتنا بفعل صراعات مسلحة وحروب أهلية وحروب الكل ضد الكل ونزعات طائفية وانفصالية وتفتت للدول الوطنية وانهيار لمؤسساتها وأجهزتها، إلا بالتوافق على كون الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون وتداول السلطة والتنمية المستدامة هى النسق القيمى والمجتمعى الواجب التحول باتجاهه.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى