أعمدة

عمرو حمزاوي | يكتب : نحو منظومة عربية للتعاون وللأمن

حمزاوى

منذ غزو صدام حسين للكويت فى 1990، وبلاد العرب تفتقد بقسوة، وبتداعيات كارثية، نظاما إقليميا فعالا يحمى أمن شعوبها، ويضمن بقاء الدول الوطنية، ويؤسس لعلاقات تعاون متكافئة مع القوى الدولية والأطراف الإقليمية غير العربية – أى الجمهورية الإسلامية فى إيران وتركيا – ويحول دون انتهاكها للسيادة العربية ودون تغول مصالحها على المصالح العربية، ويضع نهاية للصراع العربى ـ الإسرائيلى بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وبتفعيل حق عودة اللاجئين وبانسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة وفقا لقرارات الشرعية الدولية.

عندما غزت القوات العراقية الكويت فى 1990، كان للعرب بعض الترتيبات الإقليمية التى استقرت تدريجيا فى سياق القرن العشرين وعبر مسارات تاريخية وجيوسياسية مركبة، وفى كثير من الأحيان متناقضة الوجهة: سقوط السلطنة العثمانية وتكالب القوى الاستعمارية الأوروبية على بلاد العرب، نشوء الدول الوطنية الحديثة فى المشرق والمغرب العربيين فى ظل هيمنة المستعمرين وتنامى حركات التحرر الوطنى، رحيل الاستعمار الأوروبى التقليدى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939ــ 1945) وقدوم الاستعمار الاستيطانى الإسرائيلى واستلابه لأرض فلسطين، تأسيس جامعة الدول العربية كإطار إقليمى للتعاون وبزوغ عصر الجمهوريات العربية فى المشرق (باستثناء المملكة الأردنية الهاشمية) وفى وادى النيل والمغرب العربى (باستثناء المملكة المغربية)، إخفاقات متتالية لتجارب الوحدة العربية فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين (جسدت دولة الوحدة المصرية ــ السورية، الجمهورية العربية المتحدة 1958ــ1961، نموذجها الأبرز) على نحو أسفر عن رسوخ الدول الوطنية ككيانات الحكم الوحيدة فى بلاد العرب، مواجهات عسكرية متكررة مع إسرائيل وتكالب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى السابق (1917ــ1991) على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة وحرب باردة عربيةــ عربية بين مصر والسعودية فى الستينيات وحرب بينهما بالوكالة فى اليمن وصراعات حدود عربيةــ عربية بين دول أخرى (الجزائر والمغرب على سبيل المثال) ثم كارثة 1967، إعادة ترتيب العلاقات العربية ــ العربية فى السبعينيات وإعادة تعيين مناطق نفوذ القوى العظمى بعد حرب أكتوبر 1973 وفى سياق التراكم غير المسبوق لريع النفط والتسوية السلمية بين مصر وإسرائيل وتراجع دور جامعة الدول العربية ودور حكومات الدول الوطنية – النظام الرسمى العربى ــ على وقع عجزها عن فرض حل عادل للقضية الفلسطينية أو وضع حد للعدوانية الإسرائيلية وسياسات الاستيطان أو إنقاذ لبنان من دمار الحرب الأهلية ومن كارثة الاحتلال الإسرائيلى ومن ثم تصاعد دور حركات المقاومة (الشعبية / غير الحكومية) الفلسطينية واللبنانية، إسقاط الثورة الإيرانية لحكم الشاه رضا بهلوى فى 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية ونشوب الحرب العراقية ــ الإيرانية 1980ــ 1988 التى استنزفت الدولتين بشريا واقتصاديا وعسكريا، ابتعاد القضية الفلسطينية عن واجهة العمل العربى المشترك وقبول منظمة التحرير الفلسطينية لحل الدولتين فى 1988.

ومع ذلك، لم يكن العرب طوال القرن العشرين وحتى غزو صدام حسين للكويت 1990 يعانون إقليميا مما آلت إليه أحوالهم فى أعقابه. بجانب تورط جيوش الدول العربية فى حروب بينية علنية وواسعة النطاق (شارك الجيش المصرى والجيش السورى مع جيوش دول مجلس التعاون الخليجى فى التحالف الدولى لتحرير الكويت الذى قادته الولايات المتحدة الأمريكية وواجهت به الجيش العراقى)، أعاد غزو الكويت الجيوش الغربية وقواعدها العسكرية إلى بلاد العرب بعد أن كانت قد رحلت مع رحيل الاستعمار الأوروبى فى منتصف القرن العشرين وبعد أن أجبرت المقاومة اللبنانية والفلسطينية القوات الأمريكية والفرنسية على الانسحاب سريعا من لبنان فى 1983 (ولم يطل كذلك أمد وجود القوات الأمريكية فى لبنان فى 1958). وبقواتها وقواعدها العسكرية المنتشرة فى الخليج، تحولت الولايات المتحدة الأمريكية من قوة عظمى مؤثرة فى التطورات الإقليمية (بل والداخلية فى بعض الدول العربية) عبر نفوذها وتحالفاتها إلى قوة عظمى ذات وجود عسكرى دائم على الأرض العربية قابل للتوظيف المباشر لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها. وفيما بعد مكن الوجود العسكرى الأمريكى، وكذلك التسهيلات العسكرية الكثيرة التى عمدت دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى إلى منحها للولايات المتحدة ولبريطانيا وحلفائهما الغربيين، من غزو واحتلال العراق ومن القيام بعمليات عسكرية أخرى. أما الدول العربية، التى قبلت وجود القواعد العسكرية على أراضيها أو التى منحت التسهيلات العسكرية أو التى لم تفعل لا هذا ولا ذاك، فتابعت منذ 1990 أو بالأحرى تابعت شعوبها استباحة الجيوش الغربية للأراضى العربية، ؟؟؟؟واعتياش العدوانية الإسرائيلية فى استباحتها للأراضى العربية فى فلسطين ولبنان وسوريا على استحالة الاستباحة إلى وضعية عربية دائمة تجد بين الدول العربية من يؤيدها جهرا أو سرا، وانهيار تقاليد القرن العشرين الإقليمية التى حمت السيادة الوطنية وحالت بين الأطراف الدولية والإقليمية غير العربية وبين التدخل فى شئون العرب.
ولم يكن لحروب الجيوش العربية البينية وللوجود العسكرى الدائم للولايات المتحدة الأمريكية وللاستباحة المتكررة للأراضى العربية غير أن ترتب مجتمعة الانفراط الكامل للترتيبات الإقليمية، وسقوط جامعة الدول العربية وأطر التعاون والعمل المشترك التى استندت إليها فى خانات اللافعل واقتصار الدور على الحضور الرمزى، وتعالى وتائر الصراعات المسلحة والحروب الأهلية والنزعات الانفصالية ودينامية تفتت الدولة الوطنية فى مناطق مختلفة، وتغول القوى الكبرى والأطراف الإقليمية غير العربية على بلاد العرب، واختزال القضية الفلسطينية فى عبث تفاوضى لا نهاية له وتشويهها بصراعات فلسطينيةــفلسطينية بينما الاستعمار الاستيطانى الإسرائيلى يواصل ابتلاع الأرض. وعمق غياب الديمقراطية وعجز السلطوية الحاكمة فى بلاد العرب، إذا ما استثنينا دول الخليج، عن تحقيق التنمية المستدامة وتحسين الظروف المعيشية لشعوبها وصون السلم الأهلى والتأسيس لمواطنة حديثة تستند إلى المساواة والحقوق والحريات من التداعيات الكارثية لانهيار الترتيبات الإقليمية.

بين 1990 و2015، انهار الصومال واختفت دولته الوطنية ولم تخرج من أرضه إلى اليوم القوات الأجنبية. بين 1990 و2015، غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق ورتب الاحتلال الأمريكى تفتيت مؤسسات وأجهزة الدولة الوطنية وعجز، كما هو متوقع، عن بناء إطار جديد للحكم ولإدارة شئون الناس، والحصيلة اليوم هى دولة فاشلة تتكالب عليها طائفية شيعية تسيطر على مناطق الجنوب والوسط مدعومة بالنفوذ الإيرانى كما يتكالب عليها النزوع الكردى للانفصال فى الشمال وحال السكان السنة الذين تتنازعهم عصابات الإرهاب والعنف من قاعدة الزرقاوى إلى داعش البغدادى والمخاوف المشروعة للأقليات المسيحية التى تواجه إجرام ودموية داعش. بين 1990 و2015، انفصل جنوب السودان عن شماله واستعرت الصراعات المسلحة والحروب الأهلية فى أقاليم أخرى من دارفور إلى كردفان. بين 1990 و2015، توحد اليمن بشطريه الشمالى والجنوبى فى بداية التسعينيات وتجاوز حربا أهلية فى منتصفها ثم ها هو يعانى خلال السنوات القليلة الماضية من دينامية التفتت الصومالى التى تفرض عليه مصير الدولة الفاشلة بصراعات مسلحة متتالية تتداخل بها العناصر الطائفية والقبلية مع اتساع مساحات فعل عصابات الإرهاب والعنف ومع صراعات وحروب بالوكالة بين القوتين الإقليميتين إيران والسعودية، والحصيلة يمنيا هى انهيار مؤسسات الدولة الوطنية وعربيا هى وصول إيران إلى مضيق باب المندب. بين 1990 و2015، لم يعد السيناريو الصومالى / اليمنى ببعيد عن سوريا التى حولت بها الجرائم الوحشية لعصابات الأسد وجرائم عصابات الإرهاب والعنف، والطرفان يحصلان على دعم دولى وإقليمى تسليحا وتمويلا، ثورة شعبية من أجل الديمقراطية إلى صراع مسلح وحرب أهلية ودموية ، ولا عن ليبيا التى تمزق أوصالها حروب الكل ضد الكل ويتوطن بها الإرهاب وتغيب عنها سلطة الدولة الوطنية، ولا عن لبنان بدولته المعطلة المرتهنة للطوائف وللسلاح الإيرانى وللمال الخليجى ولتداعيات الصراع فى سوريا ولشبكة حلفاء إسرائيل. بين 1990 و2015، وكما تمكنت إيران من التغول على المصالح العربية فى العراق ولبنان واليمن وواصلت إسرائيل الإمعان فى استيطانها وعدوانيتها، تحولت تركيا من طرف هامشى فى معادلة القوة والنفوذ فى بلاد العرب إلى طرف أساسى له حلفاؤه بين الدول العربية وخصومه بين الدول العربية أيضا ويتورط فى الصراعات المسلحة والحروب الأهلية فى سوريا والعراق وربما فى ليبيا.

لا خروج لنا كعرب من المتواليات السلبية لتغول القوى الدولية والأطراف الإقليمية غير العربية على مصالحنا، والاستباحة المتكررة لأراضينا، واستباحتنا بفعل صراعات مسلحة وحروب أهلية وحروب الكل ضد الكل ونزعات طائفية وانفصالية وتفتت للدول الوطنية وانهيار لمؤسساتها وأجهزتها، وتوطن الإرهاب الذى يعتاش على غياب سلطة الدولة الوطنية وكذلك على الاستبداد والظلم والفقر والطائفية والوجود العسكرى الأجنبى وتناقض سياسات بعض الدول العربية؛ إلا بالتوافق على منظومة جديدة أو ترتيبات جديدة للأمن الإقليمى تعلى من شأن القواسم المشتركة بين الدول العربية وتلملم أشلاءها كدول وطنية وتواجه جماعيا الإرهاب والعنف وتطور حلولا تفاوضية للصراعات المسلحة والحروب الأهلية المستعرة حاليا وتحول بين غير العرب وبين التغول على أراضينا ومصالحنا، وقبل كل ذلك تجعل من الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون وتداول السلطة والتنمية المستدامة نسقا قيميا ومجتمعيا ملزما وتحفزا عربيا على التحول باتجاهه. هنا مناط الخروج من المتواليات السلبية، هنا جوهر حاضر نحتوى أزماته ومستقبل يلحقنا بالبشرية المتقدمة.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى