أعمدة

عمر طاهر | يكتب: مابقاش عندي ثقة في حد

عمر طاهرالكتابة سهلة جدًّا ولكن بشرط، سأحاول أن أقوله لك قبل نهاية المقال، أدعو الله ألا أنسى كعادتى هذه الأيام، أذكر منذ عدة سنوات أنني كنت أجلس إلى جوار عم أحمد فؤاد نجم، أريد أن ألقي عليه قصيدة جديدة كتبتها، لكنه كان منهمكًا في حل الكلمات المتقاطعة في جريدة “الجمهورية”، ظللت أنتظره حتى مللت فقلت له: “إيه اللي إنت مضيع وقتك فيه ده يا عم أحمد؟”.

فقال لي: عندما تصل إلى سني ستعرف قيمة الكلمات المتقاطعة، فهي أفضل تدريب ينشط خلايا الذاكرة، وصلت إلى سن عم أحمد إكلينيكيًّا وبت الآن أفتش عن الكلمات المتقاطعة لأعالج النسيان، ربنا يديك الصحة يا عم أحمد ويطول لنا في عمرك.

قلت لنفسي: ولكن عم أحمد مات يا عمر.

سمعت صوتًا قادمًا من لمبة الأباجورة يسألني: هل تؤمن بنظرية أن روح الشخص بعد موته تدخل في جسد آخر في حياة جديدة؟

قلت للصوت: دعني أحكي لك قصة ربما تجد بها إجابة.

على طريق الزعفرانة مطعم يطل على شاطئ البحر الأحمر ويقدم الأسماك، محاطًا بعشرات النقاط التي أقامها الصيادون لبيع بضاعتهم التي ما زالت تتحرك في صناديق خشبية مليئة بالثلج.

في طريق الذهاب أو العودة سيجبرك المشهد على التوقف لاستطعام هذه الخيرات التي اختلطت رائحتها برائحة البحر وهواء الجبل، لا مجال للهروب من هذه الشهوة المطبقة على صدرك، يقين تام بأن ما ستأكله هنا في هذا المكان وفي هذه اللحظة، وهذا الطقس سيتفوق روحًا ومضمونًا على أفخر مطاعم أسماك العاصمة.

هذه ليست مقدمة في حب الأسماك، ولكن عن المطعم، فعند الدخول أدهشني مشهد بجعة كبيرة من ذوات الكيس الضخم أسفل فمها، هذا الكيس الذي تخزن فيه البجعة السمك قبل ابتلاعه.

طائر من النادر أن تراه في مصر مستقرًّا في مكان مفتوح على الطريق، كان الطائر يبدو منهكًا ومنكسرًا وقد تبدّل لونُه الأبيض إلى لون الشاي باللبن، قادني الفضول إلى السؤال عن وجود هذا الطائر في هذا المكان، خصوصًا بعدما رأيت المعاملة التي يتعرض إليها.

أصحاب المطعم اعتبروا الطائر وسيلة لتسلية الزبائن، ولفت أنظارهم، خصوصًا أن الطائر معظم الوقت يرقد أمام باب المطعم مستكينًا.

هناك من الزبائن مَن لا يفوتون فرصة الاستمتاع بهذا الطائر الأسير، فهذا الطفل النحيف الغلس الذي طلب صورة مع الطائر أصر على أن يفتح الطائر فمه في الصورة، إصراره نسخة من (هات لي الحصان يا أبويا)، صاحب المطعم إفراطًا في كرم الضيافة أمسك الطائر من رقبته الطويلة، وظل يضربه بالكف على الكيس المتدلي من عنقه حتى يفتح فمه، حاول الطائر أن يتخلص من قبضته فلاحظت أنه (يعرج)، وأن ثمة إصابة جسيمة في ساقه، لكن والد الطفل والطفل ساعدا صاحب المطعم في التكتيف والتلطيش إلى أن رضخ الطائر وفتح فمه، لا لكي يلتقط صورة لكن ليصرخ، لكن الصرخة لن تظهر في الصورة فليس مهمًّا، وعندما انفجر الفلاش في وجهه أُصيب بانهيار تام ورقد مكانه.. المشكلة أن الطفل عندما رأى الصورة لم تعجبه، وطلب واحدة جديدة، فتكرر السيناريو السابق بحذافيره.

سألت الجرسون فقال: إن الطائر واحد من سرب طيور مهاجرة تعبر البحر الأحمر مع بداية الشتاء، ويبدو أنه كان مريضًا فلم يستطع استكمال المشوار فأخذناه نربيه ونكسب فيه ثوابًا، قلت له: ربنا يكرمكم، فقال بفخر: هنعمل إيه بس؟ قلت له: ماتعملوش حاجة ربنا هيشوف شغله.

الصبي الذي يقف في الحمام قال لي: إن أحد الصيادين اصطاد هذا الطائر في أثناء مرور السرب، واحتفظ به وكان يربطه بحبل أمام فرشة السمك، أعجبت الفكرة صاحب المطعم فاشتراه منه.

عند الخروج من الحمام رأيت بعض العمال يحيطون بالطائر ويصرخون في وجهه كالمجانين ليفزعوه، فيرد بصرخات مماثلة، والطفل النحيف ميت من الضحك.

حاولت أن ألفت نظر صاحب المطعم إلى المأساة في أثناء الحساب فقال: «إحنا جايبينه يسلِّي الأطفال».

في تلك اللحظة كان المطعم كله يجري ناحية الطفل النحيف الذي يبدو أنه ابتلع شوكة فأصابته (شرقة) أثارت هلع الجميع.

خرجت فوجدت الطائر ينام أمام المطعم منكسرًا، وقد استحالت رائحة المكان جحيمًا بفعل مثانته التي انفجرت.

توقعت أنه يومًا ما سيجري على الطريق وسيلقي بنفسه أسفل عجلات سيارة نقل ثقيل لينهي هذه المأساة.

لو كنت أؤمن بنظرية أن روح الشخص بعد موته تدخل في جسد آخر في حياة جديدة، لقلت: إن هذا الطائر كان قبل ذلك تاجر مخدرات أدخل الحزن والخراب والموت على قلوب مئات العائلات فاستحق هذا المصير المهين، أما لو كان رجلًا صالحًا -استكمالًا للمعتقد السابق- لكان الآن عصفورًا نحيلًا يقف على شباك مطبخ في بيت ريفي يستمتع بتأمل العروس الجديدة وهي تطبخ في انتظار زوجها، وتغني مع صوت نجاة القادم من الراديو «دوار حبيبي طراوة آخر طراوة»، بينما تلقى له كل قليل على طرف الشباك بعض حبات الأرز الذي نضج.

سألني الصوت القادم من الأباجورة عن الدرس المستفاد من هذه القصة، قلت: لا توجد دروس هي مجرد حكاية، لكن إن كنت مُصرًّا فإليك واحدًا (حاول أن لا تقع أسيرًا في يد بائع سمك).

عادة يقع الواحد في قبضة بائع أسماك عندما يكون في بحبوحة، وموضوع حيازة الأموال يحتاج إلى وقفة، تقول نظرية سيدنا علي: “إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما استمتع به غني”.

أعاد مفكرو أوروبا والدول المتقدمة تعريف مسألة الفقر والثراء.. لم يعد التعريف قاصرًا على كمِّ الأموال التي تمتلكها، ولكن اتخذ أبعادًا جديدة.. تقول نظريتهم الشهيرة: “إن الفقير فعلًا هو الشخص الذي تؤثر فيه سياسات الحكومات وقراراتها.. أما الثري فهو الشخص الذي يؤثر في سياسات الحكومة”.

قال فيلسوف ما: إن الثري هو الشخص الذي يمتلك ثروة لا يعرف حدودها، بما يعني أنه من علامات الفقر إنك تعرف معاك كام بالضبط.

الكبار لا يستثمرون في مشروعات تحتاج إلى مجهود شاق، المجهود الحقيقي يبذلونه ذهنيًّا لاختيار مشروعات تحقق ثروات طائلة بضربة واحدة.. تسقيع الأراضي مثلًا، انتهت موضة تكوين الثروات من الاقتراض من البنوك والمضاربة في البورصة، تعلمت البنوك الدرس وتعمل منذ زمن بعيد حسب النظرية الاقتصادية الأمريكية التي تقول: “البنوك تقرضك فقط المبلغ القادر على إثبات امتلاكك له”، أما البورصة فلو عايز تخرج منها بثروة صغيرة فلا بد أن تدخلها بثروة كبيرة.

عمومًا الفلوس بـ(وشين).. لذلك هى غدارة، لكن هل سألت نفسك كيف يقدر الفقراء على مواصلة العيش في هذه الظروف القاسية؟ يقول مارك توين: “الفقر يشبه فقدان العذرية.. هو أمر لا يؤلم سوى لمرة واحدة فقط”.

هل تريد قاعدة تضمن لك السعادة في أضيق الإمكانيات؟ يقول حكيم صيني: “ضيع فلوسك النهارده؛ لأنك مش ضامن بكره، بدلًا من أنك تضيع النهارده لأن مش ضامن فلوس بكرة”، (قام بأعمال الترجمة: أمير البراري).

اللحظات الجوهرية في الحياة تتجاوز مسألة الفقر والثراء، يقول فؤاد حداد: “لو يسألوك تقول.. أجمل ما في الدنيا الميه للعطشان.. يعرفوك مصري”.

وهناك حكاية عن رجل أعمال أمريكي زار قرية ساحلية ودخل أحد المطاعم، وطلب نوعًا من السمك لم يسمع به من قبل فأعجبه.. طلب المزيد فقالوا له: الصياد لا يحضر لنا سوى كمية قليلة كل يوم، بحث الرجل عن الصياد حتى وصل إلى المكان السري الذي يصطاد فيه.. راقبه فوجده اصطاد خمس سمكات من النوع الذي أعجبه، ثم همَّ بالانصراف، توجه رجل الأعمال إلى الصياد قائلًا: “لماذا أنت مقل في ساعات عملك ومعدل إنتاجك؟”. فقال له الصياد: “أصحو كما يحلو لي، أفطر، ثم أتجه إلى الصيد أقضي ساعتين، ثم أبيع ما اصطدته لألحق بأطفالي على الغداء ونظل نلعب معًا حتى موعد نومهم، وفي السهرة أخرج لأسهر مع أصدقائي نمرح ونعزف الموسيقى ونلهو حتى ساعة متأخرة”. فقال له رجل الأعمال: “إذا ضاعفت ساعات عملك ستحقق ثروة أكبر.. يمكنك معها أن تستأجر شبابًا يعملون عندك.. بعدها ستبيع للمطاعم كلها.. ستحتكر هذا النوع من السمك وبعدها يمكنك أن تصدر الفائض للمدن الكبيرة.. وبعد قليل ربما تمتلك مكتبًا فيها.. سيتحول المكتب إلى شركة.. وستصدر بعدها إلى جميع أنحاء العالم وتصبح واحدًا من أثرياء الكوكب”. قال له الصياد: “وما الذي سأستفيده بعد ذلك؟”. فقال له الرجل: “ستصبح ثريًّا لدرجة تمكنك من الاستمتاع بحياتك.. ستصبح قادرًا على أن تمتلك بيتًا في قرية مثل هذه، تقضي فيه الإجازة، تسبح وتمارس هواية الصيد، وتستمتع باللهو مع أطفالك، وتقضي ليالي الصيف على شاطئ القرية مع أصدقائك تعزف الموسيقى وتمرح حتى ساعة متأخرة”.

هذا بائع سمك تاني غير الأولاني تمامًا.

هل من الممكن أن يصيرا صديقين يومًا ما؟

أعتقد أنه أمر صعب..

فالصديق هو الشخص الذي تترك له الريموت كنترول وأنت متأكد تمامًا أنه لن تفوتك مشاهدة كل ما تحبه، سيتوقف بالضبط عند ما يرضيك، وسيقوم بتعلية الصوت متى احتجت إلى ذلك دون أن تصرح، وسيضحك عند اللقطة التي لن يضحك أحد في العالم عليها سواكما.

الريموت كنترول اختبار صداقة حقيقي يكشف لك الكثير، أقترح عليك أن تتفاداه إذا كنت أنت وصديقك شاربين سيجارتين لأنكما ستكونان أكثر كسلًا من تغيير المحطة الشغالة أيًّا كانت.

إذا حدث شرخ في مرآة الريموت وهو وارد أقترح عليك وقتها أن تترك الريموت في يد صديقك عند المسرحية الساذجة، وفكر في تغيير طريقة التفكير، تبحث عن الريجيم وتفشل، طيب لماذا لا تفكر في حركة بسيطة بدلًا من أن تغسل أسنانك بعد الأكل أن تغسلها قبل الأكل، ساعتها سيصبح مذاق الطعام في فمك حاجة تسد النفس، مجرد لقيمات بطعم النعناع الكيميائي النفاذ.

تريد أن تقلع عن التدخين؟ إليك هذه الوصفة الأمريكانى: جرِّب المشي لمدة ساعة وفور أن تتوقف أشعل سيجارة جديدة (خطة جربتها كثيرًا إلى أن أقلعت عن المشي.. بس احتمال تنجح معاك إنت).

اصنع قائمة من الأشياء الغريبة، فكر مثلًا في الجمل التي لا تود سماعها في أماكن بعينها، مثلًا لن تحب أن تسمع على السرير في ليلة الدخلة جملة (كل الزيطة دي على ده بس؟) أو أن تسمع على السرير في غرفة العمليات جملة (يا خسارة الجهاز باظ).

فكر في أن تقلع عن عاداتك السيئة عند التعرف بناس جديدة، يعرفك أحدهم بشخص ما وعن طبيعة عمله فتفكر في الاستفادة منه على السريع، د.أحمد أستاذ جراحة (والله يا دكتور كان عندي ابن خالتي بيعمل بي بي لفوق ورحنا بيه لكذا دكتور). أ.مجدي محاسب في بنك النهضة (وإيه أخبار القروض عندكم في البنك؟). أ.سامح صحفي (هو صحيح موضوع إنهم هيعملوا النسكافيه بكوبونات؟).

لا تقاطع صديقك إذا طال توقفه عند المسرحية الساذجة، وحاول أن تتفادى دعوته لك بالاندماج بأن تستخدم الموبايل، أهم ما في اختراع الموبايل ليس أن (تتكلم فيه)، بل اللحظات التي يساعدك فيها على أن (تعمل نفسك بتتكلم فيه)، وهي خدمة لم تكن لتنقذك من سواق تاكسي رغاي من خمسة عشر عامًا إلا لو كنت بتنزل بتليفون البيت.

الصداقة كلمة جميلة إذا تحدثنا عن أصدقاء الآخرين، بالضبط مثل الكتابة، فالكتابة سهلة جدًّا بشرط أن لا تكون مهنتك.

 

المصدر

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى