أعمدة

فهمي هويدي | يكتب : الضجيج لا يحدث هيبة

فهمى هويدى

لا أعرف من الذى أفتى بأن هيبة مصر تقتضى إقامة حفل أسطورى لإبهار العالم فى مناسبة افتتاح تفريعة قناة السويس، لكن الذى أفهمه أن الإسراف والبذخ فى هذه المناسبة فى الظروف التى تمر بها مصر، ينالان من الهيبة وينطبق عليه المثل القائل بأن كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. ولا يقولن أحد أن الدولة لن تتكلف شيئا من نفقات الحفل الأسطورى، وإن الشركات وتبرعات المواطنين ستغطى التكاليف التى قدرت بعشرات الملايين من الجنيهات. وتلك حجة تحسب على القائلين لأنها تعنى ان الدولة المأزومة تمارس «الفشخرة» من جيوب الآخرين وانها تشجع القادرين على التنافس فى ذلك الباب متجاهلة أن هناك أبوابا أخرى أولى وأنفع، كما أن ذلك يعيد إلى الأذهان صورة الخديوى إسماعيل الذى كان مفلسا بدوره لكنه استدان لكى يقيم حفلا أسطوريا فى الافتتاح، حتى تحول البذخ الذى اتسم به الحفل إلى مادة للسخرية منه والتندر على الادعاء الذى مارسه، ولا يزال سفهه مضرب الأمثال حتى الآن. ذلك انه حين دعا الملوك وأباطرة زمانه لكى يبهرهم فإنه لم يكترث بالورطة التى أوقع مصر فيها. فضلا عن أن السماسرة والديَانة كانوا ينتظرونه لكى يرد إليهم حقوقهم. ومن المفارقات أن الحديث الجارى الآن عن الأسطورة والإبهار فى الحفل وحملة الاحتشاد والتعبئة لاستقباله، هى ذاتها التى سبق استخدامها فى احتفالات الخديوى إسماعيل. وقد استشعرت غُصة حين قرأت فى الصحف المصرية أن الاحتفال المرتقب فى السادس من شهر أغسطس المقبل سيدعى لحضوره نحو ستة آلاف شخص، وهو ذات الرقم الذى تتداوله المراجع التاريخية عن ضيوف وحضور احتفال الخديوى إسماعيل.

أسهبت المراجع التاريخية فى وصف الحفل الذى تابع الخديوى كل تفاصيله، بدءا من سفره بنفسه إلى أوروبا لدعوة ملوكها ورموزها، وانتهاء باستقدام ٥٠٠ طباخ من إيطاليا لإعداد الطعام، وتخصيص ألف شخص لخدمة المدعوين وتقديم الأطعمة والمشروبات إليهم. ومرورا بالأوامر التى أرسلت لمديرى المديريات (المحافظات) لكى يوفدوا أعدادا من المصريين الرجال والنساء والأطفال بأزيائهم وأدواتهم البيتية لينتشروا على طول القناة لكى يتعرف الضيوف على وجوه المصريين من الفلاحين والصعايدة والعربان والنوبيين.
وقتذاك انتشرت قوات الجيش على ضفاف القناة واصطفت أساطيل الدول التى حملت الضيوف فى مرافئ بورسعيد، وفى يوم الاحتفال وصل الخديوى على يخت المحروسة، ليأخذ مكانه على المنصة الفرنسية بين الإمبراطورة أوجينى وامبراطور النمسا، وعلى منصة مجاورة جلس شيخ الإسلام وبعض شيوخ الأزهر، وعلى المنصة الثالثة جلس رجال الدين المسيحى. وقد قام كل فريق منهم بواجب الدعاء لرعاية الخديوى وتسديد خطاه ونصرته، فى حين نصب خيالة بورسعيد على الشاطئ الآسيوى، وجلس المدعوون المصريون تحت المظلات البديعة التى أقيمت على الشاطئ الأفريقى. وقد فرشت الأرض بالسجاجيد الفاخرة، فى حين ملأت الزينات سماء المكان. وبعد أن أطلقت المدافع ترحيبا بالضيوف، عزفت الموسيقات فملأت الفضاء بهجة وسرورا، وعند المساء مدت الموائد العامرة لستة آلاف مدعو، حيث قدمت لهم أشهر الأطعمة والأشربة، التى تناولوها على نغمات الموسيقى، إلى ان انتهى الحفل بالألعاب النارية التى ضاعفت من الإبهار والبهجة.
تقول مراجع التاريخ إن الخديوى إسماعيل حين تولى السلطة فى عام ١٨٦٣ كانت ديون مصر ١١ مليونا و١٦٠ ألف جنيه، وعندما عزل فى عام ١٨٧٩ كانت قيمة الديون ١٢٦ مليونا و٣٥٤ ألفا و٣٦٠ جنيها. وهو السفه الذى أراد به لمصر أن تصبح قطعة من أوروبا، التى تعلق بها منذ أمضى سنتين فى فرنسا. وبسبب بذخه فإنه أغرق البلاد فى الديون التى انتهت بإخضاع مصر للوصاية المالية الغربية وباحتلالها من قبل بريطانيا فى عام ١٨٨٢.
فى حين يعد احتفال الخديوى إسماعيل بشق قناة السويس فى عام ١٨٦٩ رمزا للبذخ والفشخرة، فإن احتفال جمال عبدالناصر بتحويل مجرى النيل وإقامة السد العالى فى عام ١٩٦٤ رمزا للأداء الرصين والمحتشم. فالخديوى خاطب العالم بلغة الإبهار، فى حين أن عبدالناصر خاطبه بلغة الانجاز. وضيوف الأول كانوا وجهاء أوروبا أما ضيوف الثانى فقد كانوا من الأعوان ورفاق النضال (خروشوف بن بيللا عبدالسلام عارف) إلى جانب بعض القادة الأفارقة. الخديوى تعامل مع الأوروبيين من موقع المدين التابع والمتيَّم، فى حين أن عبدالناصر تعامل مع ضيوفه من موقع الشريك والند. ثم ان الشعب المصرى كان مجرد «كومبارس» فى خلفية افتتاح قناة السويس، لكنه كان له إسهامه فى البطولة فى فيلم السد العالى.
إن أمامنا نموذجين إذن، ان نحتذى حذو الخديوى أو نسلك درب عبدالناصر، رغم ان استكمال حفر التفريعة أكثر تواضعا من شق القناة أو إقامة السد. وأخشى أن يكون ذلك الشعور هو الذى يدفع المعنيين بالأمر فى مصر إلى المبالغة فى تصوير الحدث سواء لإبهار الأجانب أو لإقناع المصريين بأن بلدهم ولد من جديد. وللإنصاف فإن المبالغة إذا كانت محلا للاستنكار والاستهجان، فإن التهوين من شأن الحدث يظلمه ويبخسه حقه فى التقدير والانجاز. ويظل السؤال الصعب هو كيف يمكن أن يعطى الإنجاز حقه بحيث يحتفى به بالقدر الذى يستحقه من الاحترام والاحتشام. علما بأن الضجيج لا يحدث هيبة، وان التاريخ لا تكتبه ولا تخدعه مقالات الصحف أو تهويلات البرامج التليفزيونية، لأن العدل أساس الملك.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى