أعمدة

فهمي هويدي | يكتب: شاهد لم يفهم شيئًا

fahmi-200

حين غادرت القاهرة كانت وسائل الإعلام تتحدث عن بيانات دعت إلى ثورة الشباب المسلم ومعركة الهوية التى سترفع المصاحف. واستوقفنى ما تناقلته مواقع التواصل الاجتماعى بخصوص التوجيه الثورى الأول بخصوص مشاركة النساء فى الثورة المذكورة. وفهمت أن ذلك كله صدر فى بيانات باسم الجبهة السلفية. وقد بذلت جهدا لكى أعرف عنها شيئا حتى فهمت أنها تضم مجموعة من السلفيين المهتمين بالشأن العام، الذين يلتفون حول بعض القيادات السلفية. ولكنهم لا يشكلون كيانا تنظيميا واحدا.

لم أفهم الهدف من دعوتهم التى لم آخذها على محمل الجد. ومن ثم اعتبرت نداءاتهم من قبيل الفرقعات التى يصدرها نفر من النشطاء المتحمسين، الذين يتبنون بعض القضايا الوهمية ويقاتلون من أجلها. فضلا عن أننى اعتبرت الدعوة بمثابة محاولة لشق الصف الوطنى تقوم على الفرز الدينى، الأمر الذى من شأنه تحويل الصراع السياسى إلى صراع أيديولوجى. كما أننى استغربت عنوان معركة الهوية لأننى أزعم أن هوية المصريين ليست مهددة. وإنما ضمائر قطاعات من المصريين هى التى تشوهت.

بسبب ذلك فإننى لم أهتم كثيرا بالموضوع. إدراكا منى أن البلد فيه ما هو أهم وأجدى، فضلا عن أننا أحوج ما نكون إلى تعزيز احتشاد الصوت الوطنى للدفاع عن قيم الثورة وتطلعاتها. فى حين أن بيانات الجبهة السلفية تخدم الاستقطاب النكد الذى صار وباء فشلت جهود مكافحته خلال الثمانية عشر شهرا التى مضت.

شاءت المقادير أن يجلس إلى جوارى فى الطائرة أحد رجال الأعمال الذى كان ضمن وفد متجه إلى بانكوك عاصمة تايلاند لترتيب أمر استيراد بعض السلع الكهربائية اليابانية التى تصنع هناك. ما إن تعارفنا حتى شكا الرجل على الفور من الكساد المخيم على السوق والأعباء التى أصبحوا يتحملونها من جراء عدم الاستقرار والانفلات الأمنى. ذلك أن البيع متوقف فى الوقت الذى أصبح التجار يتحملون عبء التعاقد مع الشركات الأمنية الخاصة لحماية المكاتب والمخازن طول الوقت. ومن ثم فإنهم أصبحوا يستنزفون ماليا فى الوقت الذى توقفت فيه حركة البيع.

كل من لقيته بعد ذلك كان يسألنى عما سيحدث فى مصر يوم 28 نوفمبر ولفت انتباهى البعض إلى ما تبثه وسائل الإعلام المصرية بخصوص الإجراءات والتحضيرات التى تم اتخاذها لمواجهة ثورة الشباب المسلم. وحين تابعت ما تنشره الصحف المصرية فى هذا الصدد انتابنى شعور هو خليط من الدهشة والخوف. إذ أدركت أن الموضوع الذى لم أكترث به ولم آخذه على محمل الجد تحول فى الإعلام المصرى إلى إعصار جارف وخطر داهم يهدد البلد بكل ما فيه. وأكثر ما أثار انتباهى تلك العناوين التى تحدثت عن إجراءات تأمين المرافق الحيوية والمشروعات الكبرى من السد العالى وخزان أسوان إلى قناة السويس، مرورا بالبنك المركزى ومحطات الكهرباء ومبنى التليفزيون وغيره من مؤسسات الدولة.

لاحظت أيضا أن الصحف دأبت على نشر التقارير المتعلقة بانتشار المجموعات القتالية من وحدات المظلات والصاعقة فى بعض المناطق الحساسة.

وإلى جانب تلك التقارير نشرت الصحف سيلا من الصور المكبرة لسرب المدرعات والعربات المصفحة التى استعدت للمواجهة المنتظرة. إضافة إلى أرتال عناصر القوات الخاصة المزودة بالكمامات وبالأسلحة الحديثة التى توزعت على مختلف المواقع الحيوية. وقرأت أن قوات الأمن ستتصدى للمتظاهرين بالأسلحة الثقيلة التى تصورت أنها معدة لخوض المواجهات العسكرية الكبرى. وتعددت العناوين التى حذرت المتظاهرين من إقدام الداخلية على «الضرب فى المليان». حتى قال أحد مسئولى الداخلية الكبار إن الأجهزة الأمنية سترد على الرصاص بألف طلقة.

لك أن تتصور شعور المصرى حين يصدم بقراءة هذه العناوين وهو فى الخارج، فى حين يجد نفسه عاجزا عن فهم ما وراءها أو عن تبين حجم الحقيقة أو المبالغة فيها. لكن الذى لا يمكن إنكاره أن الأداء الإعلامى المصرى هيأ الأذهان لمواجهة كبرى تهدد النظام والمجتمع والعمران أيضا.

لم أجد تفسيرا لذلك التصعيد فى لغة الخطاب الإعلامى. ولم أتخيل أن الجبهة السلفية بمكن أن تثير الفوضى فى البلد إلى ذلك الحد. كما أننى لم أتفهم ولم أقتنع بموقف الإخوان الذى بدا ملتبسا ومتناقضا. أما أكثر ما فاجأنى فقد كان غياب السياسة تماما عن المشهد. ذلك أن لغة الخطاب استخدمت مفردات القاموس الأمنى من الصاعقة والمظلات والقوات الخاصة والضرب فى المليان والاعتقالات الاستباقية ولم يرد فى السياق أى حديث يشير إلى السياسة من قريب أو بعيد.

المفاجأة الكبرى وقعت حين مر اليوم ولم يحدث الانفجار الذى عُبِّئ المجتمع لانتظاره.

وكان ذلك لغزا آخر عصيا عن الفهم، ويثير أسئلة عدة حول الهدف من التصعيد وتفسير الفشل فى التنبؤ، بقدر ما يثير أسئلة حول تكلفة هذه المغامرة الوهمية والعبء الذى تحملته الدولة التى استنفرت كل مؤسساتها لأجل مواجهتها. لقد عدت بقائمة من الأسئلة الحائرة التى لا إجابة عليها، ومن ثم اعتبرت نفسى شاهدا لم يفهم شيئا. من الفعل ولا رد الفعل، حتى صرت أشك فى أن وراء الاثنين سرا لم يعلن عنه.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى