أعمدةمقالات

فهمي هويدي | يكتب: عن أزمة القضاء

1

أزمة القضاة فى مصر ليست جديدة. فمنذ ستينيات القرن الماضى رفع المستشار ممتاز نصار لواء التمرد ودعا إلى وقف تدخل السلطة فى القضاء، الأمر الذى كان سببا فى القيام بحملة ذبح القضاة فى سنة 1969. بعد ذلك طفت الأزمة على السطح مرة أخرى فى مؤتمر العدالة الأول الذى عقد فى عام 1986، ثم أشهرها المستشار يحيى الرفاعى فى بيانه الشهير الذى صدر فى عام 2002 ونعى فيه العدالة، وأعلن اعتزاله المحاماة وانسحابه من الساحة القضائية، بعدما فضح موقف السلطة الساعى إلى هتك استقلال القضاء وبسط سلطانها عليه. وتصدى للأزمة نادى القضاة فى العام ذاته (2002) حين كان يرأسه المستشار زكريا عبدالعزيز، حيث عالجها فى مشروع جديد للسلطة القضائية لايزال مودعا فى وزارة العدل.

للدقة فإن المشكلة لم تكن فى القضاء ولكنها كانت فى النظام السياسى الذى عمد إلى ترويضه وتطويعه واستخدامه. وهو المعنى الذى أبرزه أحد زعماء النهضة بالهند فى أربعينيات القرن الماضى، حين ذكر أمام محكمة إنجليزية قدم إليها حين قال: إن التاريخ شاهد على أنه كلما طغت السلطات الحاكمة ورفعت السلاح فى وجه الحرية والحق كانت المحاكم آلات مسخرة بين أيديها تفتك بها كيفما شاءت. وليس ذلك بعجيب لأن المحكمة تملك قوة قضائية مهيبة. وتلك القوة يمكن استخدامها فى العدل والظلم على السواء. فهى فى يد الحكومة العادلة أعظم وسيلة لإقامة العدل والحق. وبيد الحكومة الجائرة أفظع آلة للانتقام والجور ومقاومة الحق والإصلاح.

(ملحوظة: للعلم هذه الشهادة تضمنها كتاب ثورة الهند السياسية الصادر سنة 1941، وأوردها الدكتور فتحى سرور حين كان أستاذا للقانون الجنائى فى كتابه «الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية» الصادر فى سنة 1980، لكنه حذفها من الكتاب لاحقا، بعد دخوله الوزارة فى عام 1986 ثم ترؤسه لمجلس الشعب بعد ذلك طوال 21 عاما).

فى وثيقة نعيه للعدالة وانسحابه من المحاماة قال المستشار يحيى الرفاعى إن الأنظمة المتعاقبة فى مصر وضعت فى دساتيرها نصوصا أكدت مبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته، وحظرت وأثمت التدخل فى أى قضية أو أى شأن من شئون القضاء، «إلا أن حكوماتها لم تتوقف طوال تلك السنين عن النص فى القوانين المنظمة للسلطة القضائية وغيرها على ما يجرد تلك النصوص من مضمونها تماما، بل ويخالفها بنصوص صريحة صادرت بها لحساب السلطة التنفيذية معظم أصول هذا الاستقلال وقواعده وضماناته».

بيان المستشار يحيى الرفاعى فضح مظاهر تغول السلطة التنفيذية، ومشروع نادى القضاة الذى قدم فى عام 2002، حاول أن يعالج تلك المظاهر عن طريق رفع يد وزارة العدل عن ندب القضاة وتعيينهم وتقدير أهليتهم وصلاحيتهم ومساءلتهم، إلى غير ذلك من الثغرات التى سمحت للسلطة التنفيذية أن تتدخل فى مرتبات القضاة ومخصصاتهم إلى جانب تدخلها فى الأحكام التى يصدرونها.

الخلاصة أن الحديث عن فك ارتباط القضاء بالسلطة، وتحصينه ضد أساليب الاختراق والتأثير عليه له تاريخه الذى يمتد لنحو ستين عاما، إلا أن التغول ذهب إلى مدى أبعد فى ظل النظام السابق، الذى أبقى على مختلف الثغرات التى شكا منها دعاة استقلال القضاء. وأضاف عنصرا آخر استهدف كبار القضاة تمثل فى إغوائهم بمد السن تارة وبتعيينهم فى المناصب التنفيذية الرفيعة تارة أخرى (المحافظون مثلا).

لأن الرئيس السابق قضى أطول مدة فى منصبه فإنه استطاع أن يمارس لعبة الغواية التى مارسها لتحصين واستمرار نظامه إلى جانب تزوير انتخاباته واستفتاءاته. فمنذ عام 1992 قرر مبارك رفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاما، وبعد أن خفضه فإنه رفعه إلى 64 عاما ثم 66 عاما. لكنه خفضه ورفعه من جديد إلى 68 عاما حتى وصل إلى 70 عاما. وكان واضحا فى كل ذلك أنه كان يريد الإبقاء على قضاة معينين لكى يحققوا له ما يريد.

هكذا فإن جوهر الأزمة لم يكن سن القضاة ولكنه تمثل فى ضمانات استقلاله عن السلطة وإزالة آثار التبعية التى فرضت على ذلك المرفق المهم خلال العقود الماضية. وللأسف فإن الذين قدموا مشروع السلطة القضائية الجديد أخطئوا حين أثاروا قضية سن تقاعد القضاة فى الوقت الراهن. كما أن الذين ثاروا ضد المشروع من رجال القضاء شغلوا بالاشتباك مع المشروع المقدم والتنديد بأهدافه، بأكثر مما شغلوا باهتبال الفرصة والتركيز على أهمية الحفاظ على استقلال القضاء وفك ارتباطه بالسلطة. وكانت النتيجة أنهم حصروا مشروع السلطة القضائية الجديد فى إطار المطالب الفئوية التى تستهدف الحفاظ على المكاسب المادية. فاهتموا برواتب القضاة ومزاياهم المادية ولم يهتموا باستقلال القضاء ذاته. وهو ما يدعونا إلى القول بأن الذين أثاروا الموضوع فى مجلس الشورى اختاروا التوقيت الغلط والمدخل الغلط، أما الذين عارضوه فإنهم خاضوا المعركة الغلط. وفى النهاية ظلت أزمة القضاة الحقيقية تراوح مكانها ولم تتقدم خطوة إلى الأمام.

 

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى