مقالات القراء

محمد فتحي الجابري يكتب: كان اسمها أميرة

ها هو شهر رمضان المبارك يلقي علينا اخر تحية سلام ووداع علي أمل اللقاء

بعد عامٍ كامل
ونحن الأن في ليلة العيد تلك الليلة التي تملئها البهجه والصخب ربما اكثر
من ايام العيد نفسه
وكانت الشوارع مليئه بالأطفال ، والاذدحام يملئ شوارع مدينتنا كلها
والأطفال يغنون ويرقصون وليست علي شفاههم سوي عباره واحده
((بوكرة العيد ونعيّد وندبحك يا شيخ سيد ))
كنتُ أسيرُ والأصواتُ تتداخل في أذني عاليةً وممزوجة ببعضها ما بين صياح
أطفال ومنادات باعة علي الطريق والصخب في القهوة وتحيات عالية لشخصٍ من
بعيد مليئة بالتهنئة
وظل الأطفال يتباهون بملابس العيد الجديده التي لم يرتدوها بعد ، وتذكرت
طفولتي  منذ ما يقرب من عشرين عاما عندما كنتُ أظل متيقظا طوال الليل
منتظرا شروق شمس العيد  لأفتح لها باب منزلنا لتدخله وتنير الدنيا بكل
أنواع الفرح  وأظل طوال الليل ممسكا بيدي ملابس العيد والحذاء الجديد .
ليتها تعود تلك الأيام .
وكل خمسة دقائق يتساءل أحد الأطفال تري كم بقي من  الوقت علي قدوم العيد
وكأن الأطفال يستحثون الليل علي الرحيل لتشرق الشمس ، شمس العيد ليلبسوا
ملابسهم
الجديده ويلهوا ويفرحوا بالعيد وبهجتهُ
وكانت (أميره) تجري مع الأطفال ، مَن لا يعرف أميرة يحبها ، من يعرفها
يعشقها ، أما مَن تحبهُ السماء ويلعب معها أخشى أن أكون مُلحدا إن قلتُ
يعبدها . فتاةً في عامها الخامس يسكن السحرُ ملامحها لها عينان خضراون في
لون العشب الضاحك وشعرا ناعم في لون حقول القمح الناضج الذي تلفحهُ شمس
الصيف  وجاءتي مُسرعةً وشدت بنطالي بقوه لتجذب انتباهي لها
وقالت كأنها تقول خبرا جديدا سعيدا , قالت بكل فرحة الدنيا : (بُكرة
العيد ، بُكرة العيد يا عمو محمد ، أه والله بكره العيد كل سنه وانت طيب)
فنظرتُ لها باسما واحتضنتها فقد كانت (اميرة) أحب أطفال شارعنا إلي قلبي
وقلت لها (كل سنة وانتي طيبة يا حبيبتي )
جرت ثم أتتني مُسرعة بطريقه جنونيه وضحكات عالية بملابس العيد
المُلتفه بكيس شفاف يدل علي انها لم تُلبس بعد وقالت في لهفة
_ _بص بُص يا عمو محمد هلبس الفستان دا بكرة وهكون أحلى بنت في الشارع
كله ،  أه  والله )ُ)
قلت لها وأنا احتضن وجهها النحيل الصغير براحتا يديا
_ (ومن غير الفستان دا يا حبيبتي إنتي أحلى بنت في الدنيا كلها )
قالت في سرعه وكأنها تذكرت أمرا هاما
عمو محمد ؟ هو مش العيد بُكرا ؟))
جلستُ القرفصاء ومسكتُ كتفيها وقلت باسما ( أيون ، بُكره العيد )
حكت هي جانب رأسها بإصبعها السبابه وهي تفكر ثم قالت
(طيب وفين بقي العيدية؟)
كانت براءتها وطفولتها النقيه أمرا خُرافيا وبرغم صغرها  لكنها كانت
صديقة الشارع كله كبيره وصغيره
فقلت لها بعد ان مسحتُ علي شعرها الذهبي الجميل
بُكرا يا حبيبتي بعد صلاة العيد أديكِ عيديتكِ))
قالت وهي تجري لتكمل لعبها مع اصدقائها ووجهها مازال موجها نحوي وهي ترفع
سبابتها مُحذرةً
_ هاخد العيدية خلاص بُكرا في صلاة العيد
وقابلني جارنا الأستاذ فهمي والد أميره بحُضنٍ اخوي قائلا
_ كل سنة وأنت طيب يا استاذ محمد وبعودة الأيام
فقلت له _ كل سنة وأنت طيـــــــــ……
ولم أُكمل عبارتي ، تلك الصرخة التي سمعتها لا تخطئها أذني أبدا ولا
تخطئها اي أذن في شارعنا  جدران البيوت تعرف هذة الصرخة حتي العصافير علي
سلوك أعمدة الإنارة وحتي الأشجار علي جانبي الشارع  كل شئ يعرف هذة
الصرخة لكنها الأن صرخة مُحملة بالألم  إنها أميره
والتفت لأراها مُمدده علي بُعد عشرون مترا منا علي قارعة الطريق والدماء
تسيل من انفها وفمها بينما هناك شاحنةه تهرول مُبتعده
وجري إليها والدها كالمجنون وأخذها وهرول إلي المشفي
بينما وقفتُ مذهولا لا أدري شيئا
حاولت أن أجري مع من حملوها إلي المستشفي  لم أقدر، حاولت أن أجري مع من
جروا خلف الشاحنه ليمسكوا بها لم أقدر ، شلل غريب سيطر علي أطرافي  ، حتي
عندما حاولتُ أن أصرخ بإسمها لم أقدر
ظللتُ خمس دقائق ومشهدها نائمة علي الأرض والدماء تغادر جسدها لا يفارقني
وعالقٌ في مُخيلتي
وحين أفقتُ من ذهولي لم أجد أحدا حولي فقط أنا وبقعة الدم علي قارعة الطريق
الشارع المذدحم الصارخ الذي كان
يعج بكل أنواع الفرح والصياح منذ دقائق الأن صامت كئيب كصمت القبور
فأردتُ الذهاب إلي المشفي فخرجت لي أمي وهي تكاد تبكي قائلةً
_ (رايح فين يا محمد ، تعالي يا حبيبي خدوها مستشفي الجامعه)
تحررت أطرافي من الشلل فرفعت ذراعي مشيرا حيث ذهب أبوها بها وقلت في ذهول ( أميرة)
قالت أمي ( إطلع يا ابني حرام عليك)
فقلت ومازال ذراعي مرفوعا  ( أميرة)
وبكت أمي قائلةَ ( إطلع يا ابني )
فانتظرت ولم استطع إبعاد المشهد من ذاكرتي أبدا
قالت لي أمي (إطلع يا ابني انت منمتش في العشرة الأواخر إلا ساعات قليلة
، إطلع نام )
وحقا مع قيام الليل في العشر الأواخر وقلة النوم كنت أحوج ما اكون الي النوم
ونمت
وجاء الصباح وأشرقت شمس العيد
ذهبتُ إلي صلاة العيد في الساحة الشعبيه  حيث كان العددُ غفيرا  رجال
ونساء  ومئات الأطفال يرتدون قبعات طويلة غريبة الأشكال بألوانٍ مبهجة
وبعد انتهاء الصلاة وجدت من يشدني من جلبابي ويقول
_ فين العيديه يا عمو محمد) )
بسرعه ولهفه أزحت القبعه الكبيره التي تعتمرها الفتاه علي رأسها  فقالت
الفتاة ( أي  بالراحه يا عمو محمد راسي متعورة )
لم اصدق
كانت هي

كانت أميره ورأسها مُغطي برباط أبيض صغير وجرح بسيط في وجهها لم ينتقص من
جمالها الساحر شيئا
فاحتضنتها بكل شوق الدنيا وقبلتها وقلت لها ( أميرة ، إنتي بخير يا حبيبتي ؟)

وكعادة الأطفال الصغار تجاهلت هي كل شوقي اليها قائلة
يالا فين العيديه إحنا في صلاة العيد أهو) )
وبسرعة ايضا اخرجتُ كل ما في جيبي واهديتها اياه
نظرتْ للنقود بدهشه قائلة _ كل الفلوس دي ليا لوحدي؟؟
لم أجب من فرط الإنفعال الذي يعصفُ بوجداني بل أومت لها أن نعم
فتعلقتْ برقبتي وطبعت علي خدي قبلة طويلة قائلة
_ أنا بحبك قوي يا عمو محمد
وجرت لتلهو

(( إصحى يا محمد  ، يالا يا حبيبي عشان تصلي ))
أفقتُ من نومي علي صوت امي ونظرتُ من خلف زجاج نافذتي فوجدتُ الدُنيا ما
زالت غارقة في ظلام الليل الرهيب فقلتُ ( أصلي اية؟ الشمس مطلعتش ولا دي
صلاة الفجر؟)
لم أفطن لرداء أمي الأسود ولا لدموعها التي تغرق وجهها  إلا بعد أن قالت
( لا يا حبيبي دي صلاة الجنازة ) وبكت بحُرقة وهي تكمل ( أميرة ماتت )

ولم أستطع أن أخبر أحدا أن أميرة قد جائتني وأخذت ما تتمناه مني وهو
عيديتها وكانت في كامل الصحة والعافية
وتحول العيدُ السعيد إلى مأتمٍ قاتمٍ حزين كل هذا بسبب طفلةٍ صغيرة ،،
كان اسمها أميرة ..

*****************************
ملحوظة
القصة غير حقيقية إطلاقا

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى