منوعات

محمود بن سبكتكين.. «خليفة الفاروق ومحطم الصنم الأكبر وقاهر الهند»

236530_0

نشأت دول مستقلة عن الخلافة العباسية بعد انهيارها فقامت الدولة الطولونية والإخشيدية في مصر، والأغالبة والأدارسة في المغرب العربي، والدولة السامانية والغزنوية في خراسان وبلاد ما ورا النهر والهند.

وبرز العديد من القادة العظماء في التاريخ الإسلامي، خلال الفترة سالفة الذكر، كنور الدين محمود، وألب أرسلان، وكافور الأخشيدي، ومنهم محمود بن سبكتكين، أحد ملوك الدولة الغزنوية، وفاتح الهند.

أطلق عليه المؤرخون «السلطان الذي وَطِئَتْ خيله أماكن لم تَطَأْها خيل المسلمين من قبل، ورَفَعَ رايات الإسلام في بلاد لم يدخلها الإسلام من قبل. هو يمين الدولة وأمين الملَّة، ناصر الحقِّ ونظام الدين، وكهف الدولة، أبوالقاسم محمود بن سبكتكين، محطم الصنم الأكبر، وقاهر الهند، والسلطان المجاهد العظيم».

مولده

ذكر المؤرخ حسين مؤنس، في كتابه «أطلس تاريخ الإسلام»: «وُلِدَ محمود بن سبكتكين في المحرم360هـ، 971م في مدينة غزنة، وتقع الآن في أفغانستان، وأبوه مؤسِّس الدولة الغزنوية، فنشأ وتربَّى تربية القادة الأبطال، واشترك منذ حداثته في محاربة أعداء الإسلام من الهنود والبويهيين، وكان له أثر كبير في معركة نيسابور التي انتصر فيها والده سُبُكْتِكِين على البويهيين، وذلك كله وهو في مقتبل الشباب».

توليه الحكم

ويقول «مؤنس»: «توفي الأمير سبكتكين، والد محمود، سنة 388 هجرية بعدما أنشأ دولة كبيرة وقوية وراسخة تشمل إقليم خراسان كله وسجتان حتى كابل، وتولى الأمر من بعده محمود بعد منازعة قصيرة مع أخيه إسماعيل الذي كان لا يصلح للرئاسة».

ويشير «مؤنس» إلى أنه «عندما تقلَّد محمود بن سُبُكْتِكِين مقاليد السلطنة أظهر السُّنَّةَ وقمع الرافضة والمعتزلة، ومشى في الناس بسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فكان: يُعظِّم المشايخ ويُقَرِّبهم ولا يستغنى عن مشورتهم».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، في مجموعه فتاويه: «ولما كانت مملكة محمود بن سُبُكْتِكِين من أحسن ممالك بني جنسه؛ كان الإسلام والسُّنَّة في مملكته أعزَّ؛ فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل ما لم ينشره مثله، فكانت السُّنَّة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة».

العلاقة مع الدولة العباسية

أقام السلطان محمود الخطبة للخليفة القادر بالله في بغداد، وأقرَّه الخليفة العباسي سلطانًا على ما تحته من بلاد خراسان والجبال والسند والهند وطبرستان، وأرسل له الخليفة خلعة فاخرة جدًّا لم يُرسل مثلها قط خليفة إلى أي سلطان من قبل، وخلع عليه الألقاب الكثيرة: «يمين الدولة، وأمين الملة، وناصر الحقِّ، ونظام الدين، وكهف الدولة»، وبعدها أضاف «سبكتكين» إلى نفسه لقب: «قاهر الهند ومحطم الصنم الأكبر».

وأعلن خضوع دولته الضخمة وتبعيتها لـ لخلافة العباسية ببغداد، وخطب للخليفة العباسي القادر بالله، وتصدَّى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين التاهرتي، الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد محمود بن سبكتكين، وأهدى بغلته إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي وقال: «كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحِّدين».

تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية

قال المؤرِّخُون: «إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح الخليفة عمر بن الخطاب»،

اشتهر محمود بمحاربة البدع والرافضة والمعتزلة، ووأوضح ابن كثير، في كتاب «البداية والنهاية»: «وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة ،فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع وتبرؤا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام ,وأخذت خطوطهم بذلك, وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم, وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك, واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم, ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر, وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنة في الإسلام».

وأوضح ابن تيمية، في مجموع الفتاوى: «وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك».

كما قام بالقضاء على كل المذاهب والعقائد الضالَّة المخالفة لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة؛ مثل: الاعتزال، والتشيع، والجهمية، والقرامطة، والباطنية. والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين البلاد الواقعة تحت حكمه، كما قام بالقضاء على الدولة البويهية (الشيعية) والسامانية.

فتوحاته في الهند

ظلَّ فتح الهند حُلْمًا كبيرًا يُراود الخلفاء والسلاطين طيلة أربعة قرون؛ منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أُرسلت في ذلك الحملات والجيوش لفتح تلك البلاد الشاسعة، وكانت أُولى الحملات الناجحة في عهد الوليد بن عبدالملك على يد محمد بن القاسم الثقفي؛ فتوغَّل في شمال الهند وفتح مدينة الدَّيْبُل وأقام بها مسجدًا، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت الدَّيْبُل أول مدينة عربية في الهند.

لم تكن شبه الجزيرة الهندية وحدة سياسية واحدة تحكمها إدارة وحاكم واحد، فلقد كانت مقسمة لعدة أجزاء وإمارات وأقاليم وذلك لضخامة مساحتها وكثرة الصحاري بها، وكل إقليم كان له ملك يحكمه، وكان أكبر هؤلاء الملوك سنا وشأنا وقوة وبأسا هو الملك، جيبال، وكان في نفس الوقت أشدهم حقدا وكرها للمسلمين عموما، وآل سبكتكين خصوصا، حيث أنه سبق وأن التقى في معركة كبيرة مع الأمير «سبكتكين» سنة 369 هجرية وهزمه «سبكتكين»، فكما انتهى السلطان «محمود» من الأمور الداخلية جعل كل همه القضاء على «جيبال».

ويقول «مؤنس»، في «أطلس تاريخ الإسلام»: «قاد محمود حملة كبيرة على شمال الهند حيث معقل ملك جيبال، وحصن مدنه واصطدم معه في معركة برشور في المحرم سنة 392 هجرية، وانتصر المسلمون، ووقع «جيبال» نفسه في الأسر، وكان محمود شديد الذكاء وعلى دراية تامة بنفسية كفار الهند فبعدما أسر جيبال وألبسه شعار الذل، أطلق سراحه نظير دية ضخمة، وهو يعلم ما سيفعله به قومه، فإن من عادة الهنود أنهم من وقع في الأسر من ملوكهم لا تنعقد له رئاسة عليهم أبدا، فلما عاد جيبال إلى بلده ورأى حاله وما صار إليه من هزيمة وذل وعار وضياع ملك ومال، حلق رأسه، ثم ألقى بنفسه في النار».

وتابع: «قاد حملة ضد الملك انندبال، وواجه الملك ناكر كوت، وألزمه بدفع الجزية، وواجه -أيضًا- الملك راجا ناندا، وأدَّت تلك المعركة إلى انتشار واسع للإسلام في منطقة كالنجار».

هدم صنم الهندوس الأكبر «سومنات»

وتابع «مؤنس»: «كان للهند صنم يسمونه سومنات، وهو أعظم أصنامهم في حصن حصين على ساحل البحر بحيث تلتقفه أمواجه، والصنم مبنى في بيته على ستة وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، ومن حجر طوله خمسة أذرع، منها ذراعان غائصان في البناء وليس له صورة مشخصة، والبيت مظلم يضيء بقناديل الجوهر الفائق، وعنده سلسلة ذهب بجرس وزنها مائة من تحرك بأدوار معلومة من الليل، فيقوم عباد البرهميين لعبادتهم بصوت الجرس، وعنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة، عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار، وكانوا يحجون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر».

وكان السلطان محمود الغزنوي كلَّما هدم صنمًا، قالت الهنود، بحسب المؤرخ ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»: «إن هذه الأصنام والبلاد قد سخط عليها الإله سومنات؛ ولو أنه راضٍ عنها لأهلك مَنْ قصدها بسوء».

فسأل السلطان محمود عن سومنات هذا؟ فقيل له: «إنه أعظم أصنام الهنود»، فعزم السلطان محمود على هدم الصنم، وقاد جيوشه بنفسه إلى أن وصل إلى «سومنات».

عرض الهنود على السلطان محمود بن سبكتكين أموالًا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار مَنْ أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم؛ للمجهود الضخم والأموال الطائلة التي أُنفقت على تلك الحملة الجهادية، فقال: «حتى أستخير الله –عز وجل». فلمَّا أصبح قال، بحسب ما نقله «ابن كثير»: «إني فكَّرْتُ في الأمر الذي ذُكِرَ فرأيتُ أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أَحَبُّ إليَّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل مال يناله من الدنيا».

ويقول «ابن خلدون» في تاريخه: «انتصر المسلمون على الهنود بعد مقاومة عنيفة، وقُتل من الهنود خمسون ألفًا كانوا يُدَافِعُون عن معبدسومنات، ودخل محمود المعبدوحطَّم الصنم الأكبر، فوجد عليه وفيه من الجواهر والذهب والجواهر النفيسة ما يزيد على ما أنفقه في الحملة بأضعاف مضاعفة, وكانت عنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار‏».

وفاته

يقول «مؤنس»: «ظلَّ السلطان محمود في جهاد دائم لا يَكَلُّ ولا يَمَلُّ، حتى لازمه مرض في البطن أواخر أيامه، وكان يزداد عليه يومًا بعد يومٍ, وكان يتحامل على نفسه أمام الناس، وكان لا يستطيع أن يُكَلِّم الناس إلَّا مُتَّكِئًا من شدَّة المرض، ومات رحمه الله في غزنة يوم الخميس 23 من ربيع الآخر 421هـ، 1030م، وقبره بها ما زال معروفًا، وكانت مدَّة حكمه 35 سنة، وبلغت رايته الجهادية أماكن لم تبلغها راية قطُّ، كما أقام شعائر الإسلام في أقصى ربوع الأرض».

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى