أعمدةمقالات

مصطفى النجار | يكتب : إعادة هندسة إدارة الدولة

مصطفى النجار

مللت شخصيا من أحاديث السياسة اليومية والتوقف معها بعد أن أصبحت المعركة القائمة فى مصر واضحة بين فريقين الأول معاد للديمقراطية وتصوره للدولة مشوه يستدعى فيه سلبيات الماضى ويضيف إليها ما يحمى مخاوفه وهواجسه التى بلا منطق، والفريق الثانى هم المدافعون عن الديمقراطية الذين يقفون بقوة فى وجه الفريق الأول ويصرون على أن تولد فى مصر دولة ديمقراطية حديثة لا يتم فيها تفصيل الديمقراطية طبقا لأهواء بعض المؤسسات والأشخاص.

لذلك يبحث هذا المقال عن طاقة أمل تحتاجها مصر بعد أن ينتهى صخب السياسة ونجد أنفسنا أمام مشاكلنا الحقيقية التى لا يملك أحد تصورا لحلها سوى بضعة شعارات وأمان وعناوين فضفاضة، من هذه المشاكل أزمة الجهاز الإدارى فى مصر الذى يشكل عبئا على الدولة يكبل خطواتها ويستنفد من ميزانيتها الكثير دون أن تكون هناك انتاجية وأداء يتناسب مع هذا الانفاق.

•••

كل الدول التى تمر بثورات أو أزمات تغير النظام السياسى فيها تحتاج الى اصلاح إدارى لا يتحقق إلا من خلال المرور بهذه الخطوات:

1ـ استعادة الاستقرار السياسى والمجتمعى بعد الأزمة.

2ـ استعادة الأمن لطمأنة الناس وخلق مناخ جاذب للاستثمار.

3ـ تحقيق المصالحة الوطنية وترميم الشرخ المجتمعى دون المساس بالقانون.

4ـ تنفيذ منظومة العدالة الانتقالية لغلق ملفات الماضى وإنهاء الثأر المجتمعى.

5ـ إعداد دستور معبر عن الاجماع الشعبى الذى قاد تجربة التغيير دون إقصاء لأى فئة.

6ـ تعزيز الاجراءات الوقائية الاصلاحية لمنع الاسباب التى أدت لقيام الثورة أو الأزمة.

وتحتاج الدولة لبناء الثقة لدى مواطنيها تحقيق الأهداف الثلاثة التالية: الحياة بلا خوف عبر تحقيق الأمن والاستقرار، الحياة بلا فقر عبر تحقيق التنمية المستمرة، الحياة الكريمة عبر احترام حقوق الانسان وإقامة العدالة وبناء دولة القانون.

ومن هنا يتضح استحالة الفصل بين الإدارة والسياسة، فلن يمكن تحقيق إصلاح إدارى دون إصلاح سياسى، لذلك فالحديث عن دولة ديكتاتورية ناجحة إداريا ومتقدمة اقتصاديا نوع من الخبل وترسيخ لبقاء هذه الدولة تحت نير التخلف والانحطاط الحضارى.

•••

مداخل الإصلاح الإدارى متعددة لكن الحالة المصرية وصلت لمرحلة بائسة تحتاج الى مدخل كلى للإصلاح الإدارى يتعامل مع الجهاز الإدارى كوحدة متكاملة لا يمكن تجزئته ومعالجة مشاكله بأسلوب وحلول جزئية لذلك لن ينفع أسلوب التدرج أو عملية الترميم الجزئية للجهاز الإدارى فى مصر لأنها ستصبح كمن يحاول اصلاح ثقب فى السفينة فيفاجئه الماء المتدفق من ثقب آخر ثم ثقوب أخرى ستؤدى فى النهاية الى غرق السفينة، لذلك يبرز مفهوم (إعادة هندسة إدارة الدولة) أو (إعادة الاختراع) لوظائف وإدارة الحكومة كمفهوم جديد يعبر عن الاتجاه العالمى نحو إعادة النظر جذرياً فى وظائف الحكومة المعاصرة وأساليب إدارتها، فالحكومة الفعالة تركز على تحقيق النتائج وليس اتباع التعليمات والقواعد، مفهوم الإدارة المرتكزة على النتائج يلزمه إطار شامل للتخطيط الإستراتيجى وتدعيم مفهوم المحاسبة والتقييم بالأهداف، فلن نستطيع على سبيل المثال تحسين قطاع الصحة فى ظل منظومة تعليم مهترئ ولن نستطيع تحقيق عدالة اجتماعية مع غياب منظومة تضمن الشفافية ومحاربة الفساد لذلك يتم تنفيذ الإدارة المرتكزة على النتائج من خلال أربعة محاور هى:

ـ تحديد الأهداف الإستراتيجية والتى تساعد على تحديد الأولويات والخدمات التى ينتظرها المواطن.

ـ تحديد النتائج المتوقعة والتى بتحققها يساعد ذلك فى إنجاز الأهداف الإستراتيجية، فى ضوء البرامج والعمليات والموارد المتوافرة للدولة.

ـ المتابعة المستمرة للأداء لتعديل الاتجاهات من خلال تجارب الفشل والنجاح اليومى.

ـ تطوير عمليات المساءلة والمحاسبة من أجل ضبط الأداء والتأكد من وصول الخدمة للمواطن.

•••

التحول نحو الإدارة المرتكزة على النتائج يتضمن استخدام لغة التغيير وليس لغة الفعل، فليس مقبولا أن تقول الحكومة لقد بنيت كذا وكذا وطبقت برنامج كذا وكذا ولكن لم تتحقق نتائج، ولتوضيح الفارق نضرب مثالا فى حالة تنفيذ مشروعات حكومية فى مجال الرعاية الاجتماعية، فإنه بدلاً من وضع الأنشطة والعمليات كهدف صياغته كالتالى (بناء وحدة رعاية مسنين)، فإن الإدارة المرتكزة على النتائج تقتضى التحرك نحو المستوى الأعلى فى سلسلة النتائج وهو المخرجات أو النتائج فبدلاً من الصياغة السابقة فى شكل الفعل المتمثل فى بناء وحدة رعاية المسنين، فإن المخرجات من جراء تنفيذ هذا النشاط يجب أن تصاغ كالآتى (50 مواطناً مسناً لديهم خدمات جيدة ومطورة فى مجال الرعاية الاجتماعية) والمثال السابق يعبر عن أولى مراحل النتائج وهى المخرجات أى الأثر المباشر نتيجة تحقق النشاط ولكن يوجد مستوى أعلى وهو النتائج ويمكن صياغته كالتالى (الحالة الصحية والنفسية لعدد 50 مسناً فى المنطقة المستهدفة تحسنت بعد حصولهم على خدمات جيدة).

لن يحل بناء مستشفيات جديدة فى مصر مشكلة الصحة قبل أن نعرف ما هى الخدمة الصحية التى نريد ايصالها للمواطن وكيف نوصلها إليه، لن يحل بناء مدارس جديدة فى مصر مشكلة التعليم وتردى مستواه المفجع قبل أن نتعامل مع أركان العملية التعليمية ككل من معلم وطالب ومنهج وبيئة تعليم.

نسأل دائما لماذا لا تغير الحكومات المتتالية شيئا فى مصر ولماذا لا يشعر المصريون بتغيير حقيقى والاجابة: أنها جميعها لا تمتلك رؤية للتغيير وإنما تنهمك فى تسيير الحياة اليومية ومحاولة التعايش مع الجهاز الإدارى الموجود بكوارثه وسلبياته، الطريق للتغيير يحتاج الى العلم وليس العشوائية والعنترية.

 

المصدر 

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى