أعمدة

مصطفي النجار | يكتب : من ذبح وائل غنيم …. ؟

 

مصطفي
يقولون إن الثورات تأكل أبناءها ومن يتتبع التاريخ يجد نماذج للثوار الذين انتهى بهم المقام على أعواد المشانق بعد أن حملوا أرواحهم فداء لشعوبهم وحريتها.
فى أوائل عام 2011 وفى بيت الدكتور محمد البرادعى مازلت أذكر كلمته لى بعد أن عرضنا عليه أنا ومجموعة من الشباب تصورا تفصيليا وخطة عمل لمشروع التغيير فى مصر قال لى: اتصل بوائل غنيم ونسق معه ليعمل معكم، هذا الشاب متميز ورائع ومخلص ولديه الكثير من الأفكار الرائعة التى ستفيد المشروع.

وبالفعل تواصل معه الشاعر عبدالرحمن يوسف والتقيناه بعد ذلك وفوجئنا أن هذا الشاب البسيط نابغة فى تخصصه، وأنه بالفعل يطرح علينا تصورات منهجية مبتكرة هدفها الوصول للناس وإقناعهم بضرورة التغيير وكسر حاجز الخوف، كانت ظروف عمله تمنعه من الإقامة الدائمة فى مصر، ولكن لم يثنه ذلك عن بذل الجهد والوقت من أجل فكرة التغيير، الظروف الأمنية القمعية فى مصر وحساسية الأوضاع الأمنية للمصريين العاملين فى الخليج فرضت عليه عدم الظهور حفاظا على لقمة عيشه ومستقبل أبنائه.
هو ابن أسرة مصرية متوسطة عمل والده كطبيب بالسعودية مثل ملايين المصريين الذين لم يجدوا فرصة للعمل فى بلادهم فسافروا بحثا عن الرزق، تعلم فى مدارس وجامعات حكومية وعمل على تطوير نفسه وسافر فى بداية شبابه ليعمل ويتعلم وينفق على نفسه، تزوج مبكرا من فتاة أمريكية مسلمة وظل يطور نفسه ومهاراته حتى وصل لمنصب مهم فى إحدى أكبر شركات التكنولوجيا وخدمات الإنترنت فى العالم رغم حداثة سنه.

 

كان حلمه أن يفيد بلده بكل ما يتعلمه كان يرى أن مصر تستحق ما هو أفضل، وأن الاستبداد قرين الفشل، وأن العلم هو مفتاح النهضة الحقيقية، يتحدث بخجل ويكاد يبكى وهو يذكر نسبة الأمية فى مصر ويقول كل هؤلاء الفقراء الأميين فى رقابنا، ولن تنتهى الأمية فى مصر قبل أن تتحقق الديمقراطية.
ظل يعمل معنا بكل ما يستطيع من وقت وجهد حتى حدثت واقعة مقتل خالد سعيد بالإسكندرية، وكنت حينها بالإسكندرية أستكشف ما حدث وحين تأكدت من صحة الواقعة قال لى وائل ونحن نتحدث عبر الإنترنت لابد أن نتحرك بشكل مختلف أن مقتل شاب كخالد سعيد بهذا الشكل الوحشى يعنى أن هذا النظام قد فقد عقله وأعلن الحرب علينا نحن شباب التغيير، وقتل خالد سعيد رسالة لى ولك وكل من معنا أننا لن نتورع عن قتلكم بهذا الشكل، سأنشئ صفحة على الإنترنت نقود بها حملة لاحترام حقوق الإنسان وفضح ممارسات الداخلية، اكتب لى مقالا صغيرا يستحث الناس ويثير حماسهم، وبالفعل كتبت خاطرة عنوانها «إحنا اللى قتلنا خالد سعيد» تحدثت فيها عن سلبيتنا وخوفنا الذى يغرى النظام بقتلنا، واعتذرت لوائل أن أبقى أدمين على الصفحة لانشغالى ووجودى فى الشارع باستمرار، وتفاجأنا بكم المشتركين على الصفحة الذى زاد بشكل غير مسبوق، وبدأت فكرة الوقفات الصامتة واستمر النضال السلمى حتى نهاية العام وتفجير كنيسة القديسين واندلاع ثورة تونس، وانطلقت الدعوات ليوم 25 يناير، وانطلقت صفحة خالد سعيد لتقوم بالتعبئة والحشد للنزول، وكان وائل يتواصل معى لترتيب أماكن التظاهرات ميدانيا بحكم موقعى كمنسق عام لحملة البرادعى الموجودة فى عدد كبير من المحافظات، بالإضافة إلى أحمد ماهر مؤسس حركة 6 إبريل ومجموعات شبابية أخرى.
كان وائل يتواصل مع هؤلاء دون أن يعرفوا من هو أدمين صفحة خالد سعيد، ويؤكد علىّ دوما بالحفاظ على سرية الأمر خوفا من البطش الأمنى، وبذل وائل مجهودا خرافيا لضمان ترتيب اليوم بشكل جيد وسط اختلافات المجموعات الشبابية على تحديد الأماكن، ونجح وائل فى ذلك، بل استطعنا أن نعد قائمة بالهتافات الموحدة لليوم.
ومع ظهر يوم 25 يناير كنا نقف فى شارع قصر العينى بجوار دار الحكمة نهتف ضد النظام، كان وائل بيننا بعد أن ودع زوجته وطفليه وعاد لمصر ليكون وسط الصفوف فى الميدان، أتذكر هذه الوجوه الثائرة من الأصدقاء الذين كانوا معنا فى نفس المكان، ومنهم بلال فضل وعبدالرحمن يوسف ومحمود الحتة وحمزة نمرة ومحمد الجارحى وعمرو سلامة ومحمد دياب وغيرهم، كانت هذه الوجوه تقول إن مصر على موعد مع التغيير وبعد انكسار الحشود الأمنية ووصولنا لميدان التحرير وإعلاننا الاعتصام فيه، ثم فض الاعتصام بوحشية وعنف مفرط واعتقالى كان أحد أهم الأسئلة التى يريدون إجابتها من هو أدمين صفحة خالد سعيد، صبرنى الله وقوانى ولم يأخذوا منى شيئا وبعد خروجى فى حالة صحية قاسية بدأنا فى الدعوة لجمعة الغضب يوم 28 يناير وشاءت الأقدار أن يتم القبض على وائل قبل جمعة الغضب بيوم عقب خروجه من أحد مطاعم الزمالك ومقابلته لأحد مديرى شركته، وهو أمريكى الجنسية، وكان بالصدفة يزور مصر حينها، ووجهت لوائل تهمة التخابر مع جهات أجنبية لا لشىء سوى أنه قابل أحد مديرى شركته الذى كان مرصودا من جهات أمنية نظرا لموقعه المرموق فى شركته الأمريكية المعروفة.
وعرفت الجهات الأمنية بالصدفة أن من قبضت عليه هو مؤسس صفحة خالد سعيد، ولاقى وائل من إيذائهم ما لاقى ولم نكن نعرف نحن ولا أهله اين اختفى حتى أننى شخصيا كنت أخشى أن يكون قد فارق الحياة، واندلعت ثورة الغضب واعتصام التحرير ونحن مازلنا نبحث عن وائل بلا جدوى.
إلى أن قابلت اللواء عمر سليمان فى الاجتماع الشهير وسلمته ورقة باسم وائل وسألنى عنه وعن وطنيته وأخبرته أنه عمل معنا بحملة البرادعى والجمعية الوطنية للتغيير وأنه شاب مخلص ومن المستحيل أن يتورط فى أى شىء ضد الوطن، ووعدنى بالإفراج عنه بعد أن وصله من شخصيات كثيرة نفس المعلومة، وفى اليوم الثانى خرج وائل وكنت معه فى قناة دريم مع منى الشاذلى فى الحلقة التاريخية التى بكى فيها من قلبه بعد أن فوجئ بصور الشهداء الذين لم يعرف أنهم قضوا نحبهم وهو مغيب خلف القضبان.
واستمرت الأحداث وقبل التنحى قابلنا الفريق شفيق واللواء حسن عبدالرحمن رئيس جهاز مباحث أمن الدولة واللواء محمود وجدى وزير الداخلية حينها واعتذروا لنا عن كل ما جرى لنا ولزملائنا من تعذيب وقمع وقال لنا اللواء حسن عبدالرحمن: سامحونا أنتم وجوه مشرفة لمصر ومشكلة النظام أنه لم يفهمكم ولا بد أن يتغير النظام فى مصر ويدرك أن هناك جيلا جديدا لن تنجح الطرق القديمة فى التعامل معه.
وحدث التنحى وبدأت مرحلة جديدة رأى فيها وائل أن الأفضل له البعد عن العمل السياسى المباشر والانشغال بالعمل التنموى خاصة مجال التعليم، فأسس أكاديمية التحرير على غرار أكاديمية خان، وهى مشروع يهدف لنشر المعرفة عبر الإنترنت وجمع مجموعة من الشباب المهتم بالتنمية ليشاركوه هذا الحلم.
ونشر كتابا عن تجربته فى الثورة باللغة العربية والإنجليزية وخصص عائداته للعمل التنموى فى مصر.
وجاءت انتخابات الرئاسة وجولة الإعادة وحدث مؤتمر فيرمونت – الذى لا يتذكر الناس أنه تم بعد غلق باب التصويت بمرحلة الإعادة وليس قبلها – ووقف وائل مع مجموعة من الرموز السياسية والوطنية التى رأت مجتهدة أن هناك فرصة للتعاون مع الدكتور مرسى إذا أصبح هو الرئيس القادم عبر تعهدات أخذوها عليه، ولكنه لم يوف بها.
واستمر وائل مسافرا بين مصر والخارج فى مكان عمله، وكل نشاطه عبارة عن محاضرات أو ندوات فى بعض الجامعات يتحدث فيها عن الأمل والعمل وضرورة الانتقال إلى عصر العلم ويحاول مساعدة كل التجارب الشبابية قدر استطاعته.
ومثل الملايين التى صدمها أداء مرسى والإخوان كان له موقف واضح من رفض استمرار مرسى ودعا فى فيديو منشور إلى انتخابات رئاسية مبكرة قبل 30 يونيو، وسبق ذلك عدة مقالات منشورة فى نقد النظام الحاكم وخروجه عن خط الثورة.
هذه مسيرة هذا الشاب العاشق لوطنه، فما الذى لاقاه منذ ظهوره حتى الآن؟ بقدر ما سلط الإعلام الضوء على شخصية وائل ودوره فى الثورة من خلال صفحة خالد سعيد بقدر ما نالته سهام التخوين والاتهام والتشكيك التى لم تتوقف.
اتهامات بالماسونية والعمالة، اتهامات من كل نوع تطاله وتطال أسرته وكل من يعرفه، إذا قال رأيا لا يعجب أنصار الإسلام السياسى هاجموه بضراوة وخاضوا فى شخصه بكل ذم ونقيصة ووصل الحال بهم إلى أنهم دعوا للانسحاب من صفحة كلنا خالد سعيد وعمل صفحة بنفس الاسم تحت شعار النسخة الإسلامية وما كان جرمه إلا أنه انتقد الإخوان والرئيس المعزول.
أما أعداء الثورة وأنصار نظام مبارك فكراهيتهم لوائل غنيم لا تماثلها كراهية، فهم يرونه عميلا أمريكيا ومتآمرا لأنه شارك فى إسقاط نظام مبارك وهذه تهمته التى جعلتهم يستهدفونه بضراوة فى كل مكان وعبر إعلاميين سفهاء فتحوا منابرهم للطعن فى كل ما له علاقة بالثورة تشفيا وانتقاما ورغبة فى الاغتيال المعنوى لثورة 25 يناير ورموزها الحقيقيين.
حتى بعض المحسوبين على المعسكر الثورى ممن يعانون من الغيرة من شخص وائل غنيم لم يدخروا جهدا فى المزايدة عليه وإلصاق تصريحات كاذبة لم ينطق بها لتشويهه وصناعة صورة ذهنية خاطئة عن ولائه للإخوان ورغبته فى استمرار مرسى، وهذا لم يحدث أبدا، ولكن الحقد الدفين والكراهية سولت لهؤلاء المشاركة فى اغتيال هذا الشاب المصرى العاشق لثورته ووطنه.
يمشى وائل فى الشارع المصرى المنقسم فيقابله أنصار مرسى والإخوان فيهاجمونه لموقفه الرافض للإخوان وسياسات مرسى، ثم يقابل معارضى الإخوان فيتهمونه بأنه ذيل للإخوان وبوق لهم، ثم يقابله كارهو الثورة ومحبو نظام مبارك فيهاجمونه ويصفونه بالعمالة والخيانة.
تخيل أن إنسانا يتعرض لكل هذه الضغوط المتناقضة؟ ماذا يفعل؟ والأسوأ أن هؤلاء هم من ثار هذا الشاب من أجلهم وكاد يدفع حياته من أجل حريتهم وفى النهاية يكون جزاؤه كل هذا الإيذاء.
لم يكن وائل غنيم يحتاج للعودة إلى مصر وتعريض نفسه وأهله للخطر، وكان يمكنه أن يعيش حياة هادئة وسعيدة خارج مصر، ولكنه خاطر بكل شىء حالما للفقراء بمستقبل أفضل، كيف هو شعور من يبذل جهده وفكره ووقته وحياته من أجل بشر يعاملونه بعد ذلك هذه المعاملة؟ ألا تأكل الثورة أبناءها؟
من المؤسف أن ثوار ما بعد الثورة – الذين نزلوا للميادين وارتفعت أصواتهم الآن بالمزايدة بعد أن أصبح العمل الثورى آمنا وبلا ثمن يدفع – ينسون حقيقة جبنهم وهوانهم وصمتهم فى أيام الخوف ويتطاولون الآن على من قهروا هذا الخوف وثاروا كى يحرروا هؤلاء ويعيدوا إليهم الكرامة، وما أن تحرر هؤلاء حتى حولوا ألسنتهم إلى رصاصات تنهش من حررهم ولولاهم لظلوا فى صمتهم وجبنهم يعيشون.
تتساءلون عن صفحة كلنا خالد سعيد لماذا توقفت عن التحديث والتزمت الصمت، لأن مؤسسها ومن يقومون عليها لا يعرفون ماذا يكتبون الآن فى أجواء التخوين والجنون الجماعى، صفحة الثورة الأولى أصابتها سهام التخوين والمزايدات من الجميع فلماذا تريدون لها الاستمرار الآن.
لم تقف الصفحة على الحياد أبدا بل كانت صاحبة موقف يتناسب مع رسالتها الأساسية فى الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته وخاضت كثيرا من المعارك بلا حسابات سياسية ودون أن تروج لشخص أو حزب وها هى اليوم تتم المزايدة عليها لأنها لم تتبع هؤلاء ولا هؤلاء.
من يتابعون الحالة المصرية من الخارج يتعجبون لما وصلنا إليه، ويسألون كيف تجيدون هدم كل شىء وكيف تطفئون كل الشمعات المضيئة فى وطنكم؟

سألتمس العذر لوائل غنيم إذا غادر مصر ولم يعد إليها، فما لاقاه من إيذاء وعنت لا يتحمله بشر، لن ألوم وائل غنيم إذا تخلى عن أحلامه لمصر والمصريين وانكب على حاله معتزلا العمل العام، فكيف يعمل فى بلد أدمنت التخوين والتشكيك وهدم كل شخص ناجح.
أهدموا كل شىء جميل، واغتالوا كل حلم وستندمون حين تخسرون زهورا تفتحت فى هذه الأرض ولكن أبى المرضى والمشوهون إنسانيا إلا أن يقتلوها ويسحقوها سحقا، لا عزاء يا وطنى فيمن سيرحل بلا عودة.
إذا كنتم ترون أن وائل غنيم أجرم فى حق مصر وترونه خائنا فأرسلوا له لكى يغادر مصر ولا يعود إليها أبدا، وإن كنتم ترون أنه بذل من أجل حريتكم وكرامتكم وتريدون منه أن يعمل من أجل مصر فأرسلوا أيضا إليه وقولوا له إن بهذا الوطن عقلاء يحترمونك ويقدرون دورك فى الثورة ومهما اختلفوا معك فهم يقدرونك ويريدونك مناضلا فى بناء نهضة حقيقية تنتظرها مصر، ابحثوا عن راحة ضمائركم وقرروا ماذا ستفعلون، ما حدث لوائل غنيم يحدث لجيل كامل يحاول بعضهم اغتياله وإخراجه من دائرة التأثير.
أما أنت يا وائل يا صديقى ورفيق دربى فلا تأس ولا تحزن وهذه رسالتى سأرسلها لك على إيميل الشهيد الذى من خلاله رتبنا مع أروع شباب أعظم تحرك لأعظم ثورة [email protected] اكتبوا إلى وائل ما تريدون وتذكروا أنتم لا تكتبون لشخص بل لجيل كامل ستخسر مصر كثيرا إذا خسرته.

بقلم | مصطفي النجار

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى