مقالات القراء

مقالات القراء | دكتور أحمد عوض بيصار :عقول تحيا بالذكر وقلوب تنبض بالحياة

a

كنت قد بدأت للتو فترة الامتياز … مقتبل حياتى كطبيب … تم توزيع دفعتى على مختلف أقسام المستشفى وقد كان من نصيبى أن يكون أول شهر لى فى الامتياز أقضيه فى وحدات العناية المركزة حيث مرضى الحالات الحرجة ممن تتطلب العناية بهم ملاحظة كل دقيقة .. بل كل ثانية لأن القلب لا يستأذن قبل الانصراف …
كما هو معروف فإن وحدات العناية المركزة تنقسم فى معظم المستشفيات الجامعية إلى تلك الخاصة بمرضى القلب والخاصة بمرضى السكتة الدماغية والغيبوبة وأخرى خاصة بمرضى الكبد ووحدات متعددة لأمراض أخرى نسأل الله منها العافية ..
كانت تحتوى على أكثر الاطباء مهارة وأكثر المرضى احتياجا للرعاية … كانت تتجلى لدينا قصص عديدة من المرضى الذين نراهم اليوم وقد لا نراهم غدا .. كنا نرى أكثر من مئة سرير يوميا نمر عليهم كأننا نريد أن نحفظ التاريخ المرضى والدوائى والحالة العامة لكل مريض ومعدلاته الحيوية … ولكن شتان !! فالمرضى نصفهم يذهب إلى حيث قدره فإما تتحسن حالته وإما تسوء فيسبقه القدر … ولأننا مستشفى جامعى مركزى فإن مرضانا كانوا الأكثر سوء ممن فشلت مستشفيات عديدة فى التعامل مع حالاتهم الصعبة فقدموا إلينا فى سيارات للإسعاف من مختلف المدن المحيطة …
كانت أيامى تمر على بين هؤلاء المرضى تنتابنى مشاعر شتى لطبيب فى مقتبل حياته … كان يتملكنى التأثر الشديد مما وصل إليه المرض من الفتك بالإنسان لعلى أتذكر أننى كطبيب لست ببعيد عن هؤلاء فكلنا بشر نموت ونحيا ونمرض ونشفى من المرض بإذن الله … ثم أعود لأتذكر عظمة الله فى خلقه فكم أنت متكبر أيها الإنسان وكم أنت مغرور وتظن أن المرض بعيد عنك ليختطفك من بين أبنائك لترقد جثة هامدة لا حراك فيها إلا لقلب مسكين ورئة لا تقوى على التنفس بمفردها …و على سرير محاط بأطباء لا يعلمون من أنت وبعشرات الأنابيب التى تتغذى منها وتتنفس … بل وتقضى حاجتك … !!!
… بدأت عملى بعنابر مرضى الجلطة و السكتة الدماغية … تلك التى تقتلع الإنسان فى أقل من لحظة … لتبدو تلك الجلطة الصغيرة المتناهية الدقة لتسد شريانا قد يغذى نصف المخ أو مركزا حيويا به لتبدو كمصارع أعطى لذلك الشخص لطمة أسقطته فى الحال فلا يبدو عليه إلا علامات الموت …
كنت أتأمل فى حال هؤلاء المساكين … لا حراك بهم ولكن قلوبهم لا تزال تنبض حيوية … وتضخ الدماء لأجسادهم ولكن هيهات فخلايا المخ لا تتجدد ولا تحتمل أكثر من ثلاث دقائق ينقطع عنها الدم فيها بلا استئذان … والسبب جلطة !!! كانت كأصغر من نقطة قد تكون كتبتها يوما ما لتنهى سطرا من فصول حياتك المليئة إما بطاعة الله أو غضبه … !!!
كنت أريد أن أستشف حينها ماذا بهم هؤلاء المرضى ؟؟… هل تحيا عقولهم كأنهم فى حلم ؟؟ أم تنطق ألسنتهم المنعقدة بكلام قد لا نفهمه قد يعبر عما يجول بخاطرهم … هل يحاول هذا المسكين أن ينادى على زوجته لعلها تحضر له الطعام .. أم ينادى ذلك الآخر على ابنه كى يحمله فهو لا يستطيع الحركة … أين هم الآن … أكاد أرى حياة البرزخ تتمثل لدى فى أكثر صورها رعبا لدى العصاة و خوفا لدى المؤمنين !!! لقد تمثل كل هذا أمامى بل و أحاول أن أطمئنهم بأننى بجوارهم … ولكن هل يشعرون بى ؟ لا أظن …
اقتربت يومها (عم محمد) … عجوز فى نهاية الستينيات من عمره … له ذقن طويله و زبيبة للصلاة على جبهته .. مريض كانت عينيه نصف مفتوحة ونصف مغلقة … كان مصابا بحالة تسمى فى طب الأعصاب persistent vegetative state والتى تعنى أقصى درجات الفتك بالدماغ والتى يستحيل عندها الشفاء – إلا بأمر من الله – عرفت من ملفه أنه رجل صالح ومحبوب من أهلها بخيره وبره …كنت أرى فى وجهه الصلاح والقبول … 
اعتدت أن أتأمل فيه يوميا فأجده صبوح الوجه مشرقا كأنما كان للتو بيننا نتجاذب أطراف الحديث … نعم هناك اختلاف بيه وبين الآخرين … !!! كنت أراه وقد نظر إلى اللانهائية شاخصا عينيه لأعلى فأظن أنه يخاطبنى ولكنه لم يكن كذلك … قررت أن اقترب منه أكثر … 
كان قد ظل لفترة طويلة على سريره شاخصا ببصره أراه أول ما أدخل إلى عنبره وقد مر على الأسرة بجواره المرضى يوما بعد يوم ولا زال (عم محمد) على سريره …
اقتربت منه .. فوجدت ما لم أتوقعه … وجدت عينيه وقد تحركتا يمنة ويسارا !!! ووجدتنى اكاد أسمع لصوت يخرج من فيه يسبح بحمد الله ويكبر له !!!
ما الذى حدث لى يا إلهى !!! هل هذا معقول … ؟؟؟
لم يجل بخاطرى يومها إلا أمر واحد … كيف سمعت لهذا الصوت وماذا على أن أفعل ؟؟ تقريبا لا شىء … كنت أجد ما يقربنى إليه ومايجعلنى أظن الحنين له هو ريح طيبة تخرج منه … من جسده ومن فيه أيضا !!! كيف ولم يطعم الطعام إلا من أنابيب تدخل إلى معدته وأوردته !!! 
جاءنى الشيطان حينها بتساؤل عفن … كيف يرقد تلك المدة وقد كان من الصالحين ألا يرحمه الله برحمته ويزيح عنه معاناته !!! لم أتردد فى دحض تلك الفكرة عن خاطرى فتسبيحه رحمة وسماعى له ثواب … وكأن الملائكة تأتى إليه كل يوم وقد أمطرت عليه رائحة العنبر … حتى لا يتأذى طبيب أو ممرض أو قريب له !!!
ياله من رجل صالح كلما تذكرته فى خلوتى كلما بكيت … وكلما تذكرت تنهده بالتسبيح والتكبير كلما شخصت ببصرى إلى السماء مثلما كان يشخص ببصره ….
كان لسان حاله عندها أن أنقذنى يا إلهى من ظلم الحياة الدنيا وشقائها وأمتنى عندما يزيل مرضى ذنوبى وتقصيرى و لا تؤذ الآخرين بريح غير طيبة تخرج منى فلا أريد أن أكون صاحب أثر غير محمود … وكأننى أشعر بأن المولى قد استجاب له وكأننى أظن أن جبريل قد كرر نداء الله للملائكة بأن أحبوا عبد الله فلان واغفروا له وأوصاهم بريح من عنبر يذكرنى بريح الجنة … جنة الخلد …
يالها من قسوة فى قلوبنا نظن فيها أننا بمعزل عن قضاء الله … لا تلهج ألسنتنا بحمد الله وشكره والثناء عليه ولا نسبحه كما الطير … ولا نتقرب إليه بالنوافل ولا نقرأ فى كتابه … إلى متى سنظل غافلين وإلى متى سننسى أننا قد نكون على هذا السرير يوما ما …
أعمالنا فى حياتنا تلخصت فى لحظة ألم وتمثلت فى لسان نطق فى عجزه بما كانت تجول به عقولنا وقلوبنا فى عنفوانها …
يتبع …

بقلم : أحمد عوض بيصار

(( جميع ما ينشر على الموقع من مقالات القراء تعبر عن رأي صاحبها ولا تعبر عن رأي الموقع ))

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى