مقالات القراء

مقالات القراء | دكتور أحمد عوض بيصار يكتب:من عاشوا ومن ماتوا …

 

a
دكتور احمد بيصار

أوقفت سيارتى ذلك اليوم وقد اقترب المغيب … انطلقت مسرعا وقد كاد الحارس أن يغلق بوابة الدخول …. استطعت اللحاق به وطلبت منه وقتا آخر يقضية بداخل هذا المكان من أجلى … رآنى من خارج المدينة فأشفق على من سفرى … وسمح لى بالدخول وقضاء بعض الوقت فى تلك المقابر الكائنة بحدائق حلوان عند منزل جدى رحمه الله كما اعتدت الذهاب كلما كنت معتادا للذهاب لجامعة عين شمس للتدريب هناك كنت قد اعتدت السير بين تلك المقابر الممتدة على طول الطريق لمسافة كيلومترات … تنوعت الرائحة مابين رائحة الفل أو الياسمين مختلطة برائحة موت تكاد تفقدك الاحساس بقدميك وأنت تسير فى دنيا يقطنها من كانوا يوما ما يملأون الحياة بكل مافيها من مباهج وسعادة … أو تعاسة وأحزان ممتدة … تمر عليهم ويمر على بصرك شواهد قبور لمن ماتوا منذ أعوام عديدة … فتتأمل بتدبر …. ويجول بخاطرك أن يكون هناك حواليك من قد عذب أو من قد ضاق عليه قبره فترتعد فرائصك خوفا من الله ويتملكك البكاء ندما على ذنوبك … فتلتفت يمناك وتقول قد يكون بهذا الضريح رجل صالح وقد يكون بقبره تلك الروضه التى حدثنا عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتشعر أن الجنة على بعد أمتار منك !!! فتتذكر رحمة ربك ويتملكك البكاء هذه المرة … شوقا إلى جنة الخلود … أقرأ عبارات مكتوبة لأشخاص ماتوا فى ريعان شبابهم … وأخرى لشيوخ ملأوا الدنيا علما وحكمة … أمر على مقابر وأتذكر كلمات مكتوبة تدل على اسماء أصحابها … أتذكر هؤلاء الأشخاص وأسترجع ذكرياتى القديمة معهم وقت أن كنت طفلا فى العاشرة من عمرى أقرأ القرآن فى حلقة ذكر من الشيوخ الكبار … منهم من كان يحسن القراءة كما أنزل القرآن ومنهم من كان ضعيف البصر يكاد يرى حروفا يريد أن يحسن من نطقها كأنه يريد أن يرتقى فى الجنة بآخر آية يقرؤها !!! ومنهم من كان يجود ويرتل فيحسن التأثير … كنت أقرأه أمامهم فأجد نفسى بينهم صديقا ورفيقا … أحسن من التلاوة حتى اعتدت على لغة الضاد أشعر بها فى كل خلاياى تحيا !!! كانوا يسمعوننى كلمات من الشكر والثناء والدعاء كانت ولاتزال تحمل من التأثير العميق فى نفسى بما يعيننى على طاعة الله كنت ذلك الطفل أجد نفسى وقد تركت أصحابى فى الخارج يلعبون كرة القدم وكنت أبقى فى حلقة الذكر تلك … كان يشدنى شعور مختلط من الحياء والرغبة فى المكوث فى المسجد … من حب القراءة لكتاب الله ومن تحدى أن أقرأ صفحة كاملة أمام نيف وعشرين شيخا ولا أخطىء فى مخارج ألفاظ كلمة أو مد أو إضغام بغنة !! … تذكرت كل هذا فى رحلتى إلى ضريح جدى … تذكرت وقت أن ذهبت مع أصدقائى من الشيوخ إلى أحدهم وكان مريضا مرض الموت … وتذكرت آخر كان يدعو لى بأحب الأدعية إلى قلبى كلما رآنى  تذكرت هذا الشيخ صديق جدى – رحمهما الله – عندما كنا نعود من حلقة القرآن بعد صلاة العشاء سويا وكان منزله فى الطريق إلى منزلنا وكنت أتذكر ابتسامته الرائعة ودعائه لى فى كل وقت  تذكرت حلقة الذكر بل حلقتى الذكر وقراءة القرآن … الأولى بعد صلاة الفجر وكنا نوزع ثلاثة على كل ربع … والثانية بين صلاتى المغرب والعشاء وكنا نقرأ فيها صفحة بصفحة … أكاد أراهم الآن … أو أشعر بهم … يقرأون القرآن كما كانوا يقرأونه فى حياتهم الدنيا … حلقات ذكر أيضا !!! ولكنها هذه المرة فوق سبع سماوات … تحفهم أيضا ملائكة رحمة تدعو لهم وتستغفر … هم أيضا يتذكرون أننى كنت معهم أقرأ القرأن وأرتل … يكادون يتساءلون عنى كل يوم وكل ليلة هل أتيت أم أن أجلى لم يحن !!! انهم يفتقدوننى … وانا أيضا …. أنا الآن لا أراهم !!! بل أقرأ أسماءهم مكتوبة على شواهد قبور على بعد أمتار من ضريح جدى – رحمهم الله – … أمر عليهم الآن وقد بقوا أثرا بعد عين … أتذكر نصائحهم جميعا … أدعيتهم … ابتساماتهم … قراءتهم للقرآن … وأدعو لهم فهذا ما تبقى لهم وماسيتبقى لنا تساءلت عنهم وعن آخرين … ستدعو لهم أجيال من الأبناء والأحفاد … فمابالكم بأبناء الأحفاد ؟ هل سيتذكرونهم ؟… هل ستكفى دعوات لعشرين أو ثلاثين عاما ؟؟!!! فقط … وماذا حتى قيام الساعة … سينسانا الناس بلاشك فلن يبقى إلا عمل صالح وصدقة جارية تبقى إلى ما شاء الله لها أن تبقى … أوالولد الصالح إن وجد !!! إننى أبحث عنه الآن …. لم يعد موجودا ….. لن يعود مرة أخرى …. ولن أراه … أفتش عن ذكريات الطفولة … أبحث عن رمضان منذ عام أو عامين أو عشرة أعوام ….. أبحث بين أشيائى القديمة عن قلم أو مسطرة كان أهداها لى فى طفولتى أو وصية بخط يديه الرائع !!!!! …. لن أجد حكمته … ولن أجد تلك النظرة التى تدفعنى إلى مزيد من العمل … والأمل … لقد ذهب إلى حيث سنذهب جميعا …. إننى أفتقده الآن … وبشده أنهيت مهمتى بأن أزور من كان يوما بيننا … نحيا بحنانه الأبوى الكبير … خرجت من ذلك المكان بتحية الإسلام وكنت قد دخلت به … دعوت لمن دعوت … تذكرت جدى – رحمه الله – وتذكرت أصحابه وأصحابى …و تجردت من كبرياء الدنيا وغرورها وشرورها ومفاسدها …  فى رثاء جدى الحبيب … بقلم : أحمد عوض بيصار

(( جميع ما ينشر على الموقع من مقالات القراء تعبر عن رأي صاحبها ولا تعبر عن رأي الموقع ))

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى