مقالات القراء

مقالات القراء | محمد فتحى الجابرى يكتب :إنها تنتظرُ دوماً

992

في قلب الشتاء وبعد الثانية عشر ليلا تكون القرية كلها نائمة ، وقادني حظي الأعثر أن أكون وحيدا وعلي هذا الطريق في هذا التوقيت القاتل .
القرية كلها تعرف أنه مُحرم السير علي هذا الطريق ليلا .. طريق طويل علي أحد جانبية سور بطول الطريق تقبع خلفة حدائق المانجو وعلي الجانب الأخر حقول الذرة ويتنهي الطريق بترعة قديمة تعبرها لتجد مساحة شاسعة من حدائق المانجو الغير مسورة تبدأ بعدها البيوت والأضواء والأمان

ولكن متي ستصل إلي الترعة ومتي ستعبر حقول المانجو كي تصل إلي الأضواء ؟هذا هو السؤال .
فهذا الظلام الذي يغرقني الأن له رهبة ترتجف لها أعتي القلوب واعمدة النور الثلاثة فقط علي الطريق تلقي بضوء خابي نسبيا يحمل معه ظلالاً وهمية لا تصطحب إلا الرعب فتلك الأضواء علي الطريق لا تنير الطريق ولا تبعث الامان ، فقط تلقي بالكثير من ظلال الخوف .
ظللت اسير وحيدا والخوف يتملكني فعلي إمتداد بصري الظلمة لا نهائية والقمر خائف في السماء ولا يزال هلالاً وليدا بينما النجمات يحجب ضوءها الغمام المسافر وأعمدة الإنارة كما أسلفنا لا تسمن ولا تغني من جوع .
وظللتُ أتحدث مع نفسي بصوتٍ عالِ حتي تخف تلك الرهبة ويزول إحساسي بالخوف لكنه قفز فجأة من قلب حقول الذرة وظل يدور حولي كأنه يتعرفني ، قطٌ أسود بشع المنظر والرائحة لا تسألوني كيف عرفتُ أنه بشع المنظر لأنه قط اسود وظهر في الظلام لكنه بالتأكيد بشع المنظر وحينما يظهر قط اسود في الظلام فأنتم لا ترون قطا وإنما ترون عينان مرعبتان تتجولان .. وشفتاي تتسابق في الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والقط يدور حولي وانا ثابت في الأرض كجذور الشجر ومر من بين أرجلي وأنا خائف ، أتراه شبح ؟ قالوا لنا هذا قديما القط الأسود الذي يظهر في الظلام غالبا ما يكون شبح ، إبتعد عني ثم استدار ورمقني ، كانت عيناه تضيئ في الظلام وتصيبني برعبٍ لا حدود له ثم أصدر مواءا جمّد الدم في عروقي ويبدو أنه شعر كم أنا مرتعب فرفع جسده لأعلى قليلا بنشوة النصر وبكل هدوء عاد إلي حقول الذرة بينما أنا لازلتُ أرتجف من مشهد عيناه وهي تضئ في الظلام .
شعرتُ بالخجل من نفسي فرجلٌ مثلي تعدي السابعة والعشرين من عمرة وله طفلان ويشعر بكل هذا الخوف وثارت نفسي ، أنا لستُ طفلا كي اخاف بهذا القدر وشعرت ببعض الإطمئنان ولم يدم طويلا إذ تذكرتُ حكاياتنا ونحن صغار عن الجنية التي تمكث في الترعة وعاد الخوف يتسلل إلي قلبي من جديد .
ولاح الأمل من بعيد ، ضوءٌ يقترب مع صوت دراجة بخارية ، نعم إنها كما ظننت سأشير لها ليأخذني معه سائقها وأنتهي من هذة الليلة العصيبة وظللتُ ألوح للرجل كي يتوقف لكنه مر بي مسرعها وهو يصيح ( أعوذ باللة من الشيطان الرجيم ، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )

وا أسفاه لقد ظنني الرجل شبحا وهرول بدراجته البخاريه خوفا مني .
كانت قدماي ثقيلتان في ثقل أحجار الأهرمات وجاهدتُ كي أحث السير وأنتهي من هذا الطريق اللعين ..

كل خلايا جسدي ترتجف خوفا ويكاد قلبي يتوقف من الرعب بينما البرد قارص والظلام دامس والرياح تعبث بأعواد الذرة لتصدر صوتا لا أسمعكم الله أياه في لحظات الخوف .
ها أنا ذ ا أقتربُ من الترعة

الجنية في الترعة ، الجنية ، الترعة 
ياربي ما هذة الهواجس و
لالالا ليس هذا وقتهم أبدا ، نباح الكلاب ينطلق من خلفي ولا حل امامي سوى الركض وبدأت أركض بكل قوتي حتي وصلتُ إلي الجسر فاتكأت عليه ألتقط أنفاسي وأنا أدعو الله أن تمر هذة الليلة علي خير ولا أموت بسكتة قلبية الأن ..
( أنت خائف أليس كذلك؟)
إلتفتُ بسرعة عن يميني فوجدتها ، إمرأة ذات ملابس ممزقة وشعرها يغطي وجهها وتجلس علي شط الترعة بينما قدماها في المياة وبدا من صوتها أنها إمرأة عجوز .

ألجم الرعب لساني ، هل هذا حقيقي أم أنها تخيلات ؟ بالتأكيد هذة هي الجنية التي حدثونا عنها قديما وانها تظهر كل ليلة .
أشارت إليّ أن أذهب إليها لكن رغبة جامحة في صدري تدعوني للهرب خطوت للوراء كي أبتعد عنها فسمعتها تزوم في غضب وتهز رأسها ، وقفتُ برهة أنظر إليها وساقايا ترتجفان ، وكأنها سلبتني إرادتي وجدتني أذهب إليها كان رأسها ينظر لي لكني لا أدري أين حقا تنظر فشعرها الأكرت يغطي وجهها ثم أمالت رأسها للخلف لتشيح شعرها عن وجهها ، كانت بشرتها متأكلة تماما وبعض عظام وجهها ظاهرةً ورائحتة نتنة بينما قطراتٌ من الدم لا تزال تسيل من عنقها المذبوح ، أخرجتْ قدميها من المياة وكانتا قدمان كانهما محنتطان واقتربتْ برأسها من رأسي وظلت تشتم رائحتي وأنا أرتجف وأرتجف وقالت

_ ألا تعرفني ؟ أنا (سُمية) جميلة جميلات القرية.

إبتلعتُ لعابي في صعوبة ولم أتحدث فقالت
_ منذ عشرين عاما قتلني زوجي ، ذبحني كما تُذبح الماشية ودفنني في حقل المانجو الواسع هناك وكل ليلة أخرج علني أجد من يساعدني لكن لاأحد فهذة الطريق كانت دوما مُظلمة وفارغة والناس تظنني الجنية

قلتُ في صوتٍ مبحوح 
_ ومن أنتِ؟
لم تجب سؤالي بل مسحتْ علي ظهري ولا أدري لماذا زال عني كل شعور بالخوف وابتسمت هي وعندما اتحدث عن ابتسامتها بالتأكيد تعلمون أنها شيئا مُقزز وبرغم ذلك ارتاحت نفسي كثرا
وقالت 
_ أنت ستفعل ، أنت ستنتقم لي وتبلغ عن زوجي القاتل ، أنا هناك تحت الشجرة الضخمة وسط الحقل .
عدتُ أسألها وكأنني ألفتها 
_ ولماذا أنا؟
لانك انت الذي يجب أن يفعل ذلك ، انت المنتظر إنني أنتظرك هنا منذ عشرين عاما 

لم أفهم كلامها لكني قلت لها
_ ما هو اسم زوجك ؟
تأوهت المرأة ومسكت عنقها النازف وقالت
(ابراهيم محمود عبد الراضي)

ثم انزلقتْ المرأة إلي المياة وبقيتُ وحيدا جالسا مكاني أنظر حيث انزلقتْ حتي أشرق الصبح وتوافد الفلاحون علي حقولهم هرعتُ أنا إلي قسم الشرطة فقال لي الضابط 

_ ماذا هناك لتأتينا في هذة الساعة المبكرة ؟
فقلتُ له _ جئت أبلغ عن جريمة قتل 

إنتبه الظابط لي وقال 
_ جريمة قتل؟
_ نعم لقد قتل أبي أمي منذ عشرين عاما ودفنها تحت الشجرة الضخمة وسط حقل المانجو ..

بقلم : محمد فتحى الجابرى 

(( جميع ما ينشر على الموقع من مقالات القراء تعبر عن رأي صاحبها ولا تعبر عن رأي الموقع ))

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى