أعمدة

أحمد خالد توفيق | يكتب : النطاق السامّ

احمد-خالد-توفيق

هناك رواية ممتعة لآرثر كونان ديل اسمها (النطاق السام)، يتخيل فيها أن الكرة الأرضية تدخل نطاقا من غاز غريب يسبب الجنون، قبل أن يقضى على البشرية كلها. والعالم بطل القصة يطلب من صديقه الشاب أن يحضر معه أسطوانات أكسجين، ثم يذهبان إلى بيت مغلق ويضخان الأكسجين فى الغرفة ويراقبان من وراء زجاج النافذة نهاية العالم.. كيف يتشاجر الجميع ويضرب الناس بعضهم فى الشوارع وتسيل الدماء، ثم يتساقط الناس فى غيبوبة.. الواحد تلو الآخر.. هذا بالطبع إلى أن تفرغ أسطوانات الأكسجين فيسقطان فى غيبوبة بدورهما.

هل تمر مصر اليوم بنطاق مماثل ؟.. لا أصدق كل ما رأيناه على مدى أربعة أعوام ، والإيقاع يتزايد بسرعة على طريقة (الكريشندو) الموسيقية. ما كل هذا العنف ؟ وأين كانت كل هذه الدماء ؟. مازلت مؤمنا بثورة يناير، وأرى أن ما حدث ليس منها، ولكنه بسبب أباطرة عصر مبارك الذين حاولوا إفشالها بأى طريقة، ومهما كلف الأمر من دماء. لا بأس عندهم فى أن يموت مليونا مصرى إذا كان الباقون سيخضعون لحكمهم. رأيت فى موقف الميكروباص معركة دموية تطايرت فيها أنوف وفقئت عيون، لأن السائقين كانوا يحاولون التحرر من بلطجى الموقف، ولم يكن هو على استعداد لترك (الفردة) ببساطة.. النتيجة هى أنك تفترض أن كل هذا الدم بسبب محاولة السائقين الحمقاء للتحرر.

لكن العنف يجلب العنف.. والعنف يجلب المزيد من العنف على الطرفين.

مذهولا غير مصدق رأيت فى قناة مصر اليوم التى تُقدّم من تركيا، مذيعا – عرفت أن اسمه محمد ناصر – يدعو المصريين لقتل الضباط، ويهدد زوجة كل ضابط أن زوجها سيموت اليوم. ماذا يحدث هنا بالضبط ؟. قال لى صديقى إن هذا المذيع ظهر فى فيلم (شقة فى مصر الجديدة)، وعرفت فيما بعد أنه كان يقدم برامج على قناة المحور، وكتب شعرا وسيناريوهات وأغانى ودرس النحت. ومنذ متى يتخلى فنان عن رسالته المقدسة الداعية للجمال والسلام ليدعو الناس لقتل بعضهم ؟ نفس ما فعله مثقفونا النازيون الذين لم يكفوا عن الكلام عن لوركا وبابلو نيرودا وجيفارا، ثم فى أول اختبار راحوا يد عون لذبح المعارضين وفرمهم ومنع التظاهرات. ماذا أصاب المثقفين ؟. وسائل الإعلام انبرت تمزق هذا المذيع، وهو يستحق أكثر من هذا طبعا. تابعت برامج تلك القناة فوجدتها تتحدث عن مصر كأنها سوريا فعلا، و(كتائب المقاومة تفجر خط السكة الحديدية فى كذا) و(تنظيم أبناء الدلجمون الأحرار يفجر قسم شرطة).. الخ.. هذا جو تحريضى مخيف يجعل الحياة كارثية مستحيلة.

فى نفس الأسبوع نشرت جريدة اسمها البوابة عنوانا تحريضيا يقول: المخربون.. إذا رأيتموهم فى الشوارع فاقتلوهم ! . يتكلم عن الإخوان طبعا.. ثم يمتد هذا للمعارضين على اختلاف أطيافهم. طبعا لم يهتم أحد بمحاسبة صاحب هذا التحريض، ولم تتم أى مساءلة قانونية لواحد يدعو الناس لقتل الناس، وهو نفس ما حدث مع مذيع شهير اشتهر بالدعوة للقتل على الشاشة.. لا أحد يحاسب هؤلاء أبدا لأن الدم ليس كله واحدا.. مش كده ؟.

الحقيقة أن مصر تعبر النطاق السام بتاع الخواجة كونان دويل فعلا.. والناس فريقان.. فريق يولول وفريق يشمت. هذه فتنة جديرة بكتب التاريخ مثل فتنة خلق القرآن أو فتنة على ومعاوية..

ترى دم المتظاهر يلطخ الشارع فيقول أحدهم: احسن.. افرم يا سيسي ..وترى دم ضابط الجيش يلطخ الرمال فيقول أحدهم: يستاهلوا.. دول جنود الكفار . وكل طرف يرى أن قتلاه فى الجنة وقتلى الطرف الآخر فى النار.

تتكلم فتنهال عليك الشتائم لأنك لا تقول ما يريدون قوله. تصمت وتتكلم فى أمور أخرى فتنهال عليك الشتائم لأن البلد والعة وانت لا تشعر و(عامل من بنها).

فى ذكرى 25 يناير قُتلت شيماء الصباغ من أعضاء حركة الإشتراكيين الثوريين، وهى فتاة يسارية لا تنتسب لتيار الأخوان وبالطبع يعرف الجميع من قتلها، ولكن كالعادة يتم اتهام المتظاهرين بأنهم الفاعل، باعتبار رجال الداخلية فراشات ترفرف. لم يكن استشهاد شيماء سهل الابتلاع هذه المرة لأن اليساريين صوتهم عال، ولأنه لا يمكن اتهامها بالإرهاب كالعادة. فى نفس الوقت قتلت سندس رضا ضمن مظاهرة للإسلاميين، وكان حظها فى الشهرة أقل طبعا، وهناك كثيرون شجعوا الأمر واتهموا الداخلية بالتراخى والتقاعس باعتبار قتل المتظاهرين بالرصاص نوعا من التدليل.. كالعادة آلة ضخ الأكاذيب المسماة بالإعلام تحرض على الكراهية والعنف وتقسيم الأمة بلا توقف. وفى الوقت نفسه انتهى مبدأ محاسبة الجانى. وكما أن جندى المارينز الأمريكى يقتل ويحرق ويغتصب وهو يعرف أنه لن يُقدّم أبدا لمحكمة جرائم الحرب، يعرف من يقتلون ويغتصبون المعارضين عندنا أنه مغفورة لهم خطاياهم. يحكى الأستاذ فهمى هويدى أن ضابطا فى الشرطة أمر مراسلة بى بى سى أورلا جورين بوقف التصوير وإلا رموها بالرصاص. هذا ضابط ساذج فى رأيى. ما هى مشكلة التصوير ؟ تعلمنا مؤخرا أن هناك سيلا من أفلام القتل، لكن لا خطر منه على الإطلاق، ولم يؤد لاسترداد شق تمرة لأهل أى شهيد. صوروا كما تريدون وتسلوا..

كان هذا فى بداية الأسبوع التالى لذكرى ثورة يناير، ثم حدثت كارثة العريش التى لم تتضح خيوطها وأبعادها لى بعد (أكتب هذا الكلام مساء الخميس 29 يناير). المزيد من الدم المصرى يسيل.. وفى هذه المرة تنقلب الآية فتقرأ على النت عشرات التعليقات السعيدة المؤيدة الشامتة..كأن من ماتوا إسرائيليون.. من الذى يكتب تعليقات كهذه وبأى أعصاب يكتبها ؟.. صدع قد تكون فى المجتمع المصرى لا يمكن رأبه.. ومهما ارتكب النظام المصرى من أخطاء فما ذنب هؤلاء الشهداء المجندين الذين يمكن أن يكونوا جيرانك أو أصدقاءك أو زملاءك فى المدرسة ؟. المشكلة أن هذا الحادث العنيف لن يجلب إلا المزيد من العنف.. سترد الداخلية ويرد الجيش بعنف أكبر.. وهكذا للأبد.

لا شك أن مصر تغلى فوق بركان.. وهذا البركان الغاضب ينفجر ليخرج الحمم من وقت لآخر هنا وهناك. ما الذى يغذى الإرهاب البشع ؟ يغذيه الظلم والشعور بالإحباط والعجز عن التغيير…

فى نهاية قصة كونان دويل فوجئنا بمن فقدوا الوعى يستردونه من جديد ويفتحون العيون… عرف البطل أن الأرض دخلت نطاقا ساما لكنها خرجت منه من جديد، وعادت الحياة. ترى هل نخرج من هذا النطاق السام بدورنا ؟ وبعد كم من الوقت وكم من الدماء ؟.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى