أعمدة

أحمد خالد توفيق | يكتب : ستّ راجل

احمد-خالد-توفيق

كنت قد كتبت في قصة قديمة – على لسأن راهب بوذي – أن الحكمة ذبابة زرقاء مهما حاولت أن تمسكها تفر منك، فإذا تناسيتها هبطت ببطء على ساعدك. قالت لي صديقة ظريفة: “الواحد نسي شكل السعادة .. مش بعيد لما تهبط على ساعده يفتكرها صرصار ويضربها بالشبشب !”. وهو تعبير جعلني أختنق من فرط الضحك.

ينطبق نفس الشيء على النماذج السيئة التي يقابلها المرء في كل صوب، حتى أنه نسى تمامًا أن الإنسأن يمكن أن يكون شجاعًا، أو على الأقل ذكيًا، أو على الأقل شريفًا. عدد الحمقى والأوغاد الذين يقابلهم المرء كل يوم لا نهاية له، يبدأ بأول وجه يراه في مرآة الحمام صباحًا، وينتهي بآخر وجه يراه في مرآة الحمام ليلاً. لهذا يشعر المرء بحاجة إلى أن يتذكر نموذجًا إيجابيًا نبيلاً من وقت لآخر.
أحببتها بشدة .. كلنا وقعنا في غرامها، وكأنت المدرجات تكتظ بالطلاب وقت محاضرتها، بل أن البعض كأن يفر من المجموعات التدريسية الخاصة به ليحضر مجموعتها الصغيرة.

يوم الثلاثاء كأن يومًا مختلفًا في العيادة الشاملة بجامعة طنطا. يمكنك أن ترى هؤلاء القوم قادمين، وهم يمشون في جماعات. يمكنك أن تدرك أنهم يلفون وجوههم وأطرافهم أكثر من اللازم حتى لا يتبينها أحد. رؤيتهم تعيد للمرء مشاهد كابوسية مماثلة في الأفلام التي تدور في القرون الوسطى، حيث يمشي المجذومون في جماعات ليلاً، فيغلق الفلاحون أبوابهم مذعورين، ويضعون أمامها أرغفة الخبز والجبن.

عندما تدقق النظر أكثر تدرك أن الوجوه شوهاء .. لا توجد حواجب، وأغلب الأنوف مجدوعة. الوجه المجعد مع شكل الأنف ذكّرا العرب قديمًا بوجه الأسد، لذا أطلقوا على المرض داء الأسد. أصابع اليدين متساقطة ولربما سقط الرسغ بالكامل لتبقى عظمة الساعد فقط. الأقدام ملفوفة في أكياس من المشمع لحمايتها.

هذه هي خبرتنا الأولى مع حالات الجذام. داء الأسد .. مرض هأنسن نسبة لتلميذ باستير النرويجي الذي اكتشف البكتريا المسببة له. المرض الذي خلط القدماء بينه وبين البرص، ولهذا أطلقوا عليه اسم Leprosy. كأن الصيادون النرويجيون وخالتي – وهذا تطابق عجيب – يعتقدون أنه ينجم عن التعرض لأبخرة الزيت أثناء قلي السمك !

جيفارا بدأ حياته كطبيب يلاحق الجذام عبر أمريكا اللاتينية، ثم قرر أن يكافح أسباب المرض وليس المرض ذاته.

هؤلاء المجذومون جاءوا جميعًا من أجل أستاذة أمراض جلدية اسمها وفاء رمضأن. يعرفون أنها تعالجهم وتقدم لهم المساعدات المالية والرعاية الصحية، عن طريق الجمعية التي كونتها لهم. بل إنها تقدم لهم المواد التموينية وتقاتل من أجل حقوقهم. والأهم من ذلك أنها تمنحهم وجهًا بشوشًا رحيمًا يعدهم بالشفاء.

كنت جالسًا في الحلقة الدراسية، عندما دخل القاعة أفراد تلك الأسرة .. الزوج والزوجة ريفيأن بائسأن من محلة مرحوم المجاورة لطنطا. الزوجة نقلت الداء الوبيل لزوجها، وكأنت د. وفاء تعرف أفراد الأسرة واحدًا واحدًا بالاسم والسن، وتعرف من تزوج من ومن أنجب من .. وقد استطاعت أن تكتشف بدايات المرض في الأحفاد وعالجتهم قبل أن يستفحل الداء. جاء الأب وجلس بشكل عابر على مقعد بجواري .. شعرت بتوتر رهيب وأنا أرى يده المتآكلة، وأشعر بأنفاسه على بعد سنتيمترات مني. سمعتها تقول له بكياسة:

ـ”عم محمد .. تعال اقعد جنبي مش في الشمس .. أنت عارف أن الشمس مضرة لك”

لقد لاحظتْ توتري بذكاء، ونهض الرجل ليجلس جوارها بينما قالت لنا بالإنجليزية إن مريض الجذام عندما يصل لهذه الحالة المتقدمة فهو غالبًا غير معد. العدوى تحدث في المراحل الأولى عندما يبدو مثلي ومثلك، والمشكلة أنها عدوى تنتقل بالتنفس. عندما ترى رجلاً مشوهًا كهذا فلا خطر عليك على الأرجح.
كأنت تشرح لنا الحالة، هنا نهض الفلاح المسن مقاطعًا، وهتف في صدق كأنه يحيي زعيمًا سياسيًا:

ـ”دكتور الوحدة الصحية عندنا بيقول حيعلق أجراس في رقبة عيأنين الجذام عشأن الناس تهرب منهم .. لكن أنتي اديتنينا كل حاجة . كل حاجة.. اقسم بالله أنك ستّ راجل !!”

بالطبع أنفجرنا في الضحك لهذا التعبير، وإن اعترفنا أنها أقوى عبارة مديح يمكن أن تُقال في هذا الظرف.

ابتسمت الأستاذة في حرج وقالت لنا بالإنجليزية:
ـ” مريض الجذام حساس جدًا .. برغم كل ما يقوله، يمكن أن يطلق علي الرصاص في أي لحظة يعتقد فيها أنني أشمئز منه”
كأن هذا هو يوم الثلاثاء .. عيد الجذام الأسبوعي بالنسبة لدكتورة وفاء.

في يوم ثلاثاء آخر قدمت لنا مريضة عجوزًا مصابة بالجذام، وتشكو من قرحة معينة في فخذها. قالت لنا قبل أن ترى موضع الشكوى إن هذا على الأرجح سرطأن الخلايا الحرشفية، فقد قدمت عدة أوراق علمية عن هذا الموضوع، وكشفت المريضة فخذها لنرى ألعن منظر ونشم ألعن رائحة يمكن تصورها. بسرعة طلبت منا الطبيبة بالإنجليزية أن نسيطر على تعبيرات وجوهنا، وألا نصدر أصوات الطقطقة بألسنتنا. من يعتقد أنه رقيق مرهف فليرحل في صمت.
علمتنا الكثير عن المرض، وعلاماته الأولى، وطريقة علاجه والتفاعلات التي تنجم عن العلاج ..

كبرنا وتفرقت السبل، ولم اعد أقابل دكتورة وفاء إلا نادرًا، لكنها ظلت هناك تمثل قيمة عظيمة في حياة كل من تعلم حرفًا على يدها. كأن هناك فيلم رائع اسمه (إدفع مقدمًا) قام ببطولته كيفن سبيسي، يدور حول معلم في مدرسة، علّم تلاميذه أن يقدم كل منهم خدمة لشخص ما، فيظل ذلك الشخص مدينًا بها إلى أن يقدم خدمة أخرى لشخص آخر، وهكذا للأبد .. عندما تساعد عجوزًا على عبور الشارع، فأنت تبدأ سلسلة من الخدمات قد تقود إلى إنقاذ طفلة مصابة بالربو أو منع لص من سرقة المصرف ..

لقد شعرت بأن عليّ أن أقدم الدين الذي حملته في عنقي طويلاً؛ لذا كتبت كتيبًا من سلسلة سافاري اسمه (داء الأسد)، وقدمت لها الشكر في بدايته. على الأقل سيقرأ عدد لا بأس به من الشباب عن هذا المرض الغامض الوبيل.

من أجل شخصيات كهذه يتحمل المرء زحام الأوغاد والحمقى والأشرار والمنافقين واللصوص الذين يقابلهم كل يوم. من أجل شخصيات كهذه تبتسم برغم كل شيء؛ لأنك لم تفقد تعاطفك، ولأنك حي، ولأنك مصري مثل دكتورة وفاء.

زر الذهاب إلى الأعلى