مقالات

سامح المصري | يكتب .. سلملي على جوزك يا إسماعيل بيه

SAMEH 5

يرن الهاتف ..  يتجه الأب لحمله ويجلس على درجات سلم المسرح ..  يرد بصوت منخفض .. ألووو   ..  أيوه يا حياتي أنتى فين؟ يظهر بعدها الابن ،  يتسنط على ما يقوله والده في الهاتف لحبيبته .. ثم يكمل الأب ..  «أنزلي واسبقينى على السينما اللى كنا فيها الأسبوع اللى فات ثم يكمل .. أه أنا حاجز تذكرتين هناك بأسمي»  .. ثم يقول بعدها .. إيه مش ريحة؟ أحنا مش متفقين على كده ولا إيه. يدخل الابن في الحوار ..  يردد ما قاله الأب ويقول بصوت نسائي ناعم .. أيوه مش ريحة .. يقفز الأب بعد سماع صوت الابن من على درجات السلم في حالة من الفزع . ثم يقول الأب .. أيوه يا إسماعيل بيه .. أبقي سلملي على جوزك يا إسماعيل بيه .

نتذكر جميعا هذا المشهد الكوميدي الرائع من مسرحية العيال كبرات، الذي جسده لنا الفنان المبدع الذي رحل عن عالمنا يوم 19 مايو 2015، والفنان الكبير الذي رحل هو أيضا في 1 أغسطس 2014، ورغم أن هذا المشهد كان الهدف منه هو رسم البسمة على وجوه المشاهدين، إلا أنه ترك فينا تفسير وتحليل واضح للخيانة، والكذب، وعدم المصارحة، في مشهد كان ومازال يتكرر بيننا في التعاملات اليومية، نعم أكرر أن أسلوب الخيانة والكذب الذي أصبح منهج للحياة ، والذي يعد من المخاطر التي تعرقل قاطرة التقدم والتنمية والصعود نحو مستقبل أفضل، حيث أننا دائما نستمع إلى مقولة «سلملي على جوزك يا إسماعيل بيه » بشكل دائم على لسان من بيده سلطة تطبيق القانون، ومن يطبق القانون عليه، أى الحاكم والمحكوم ، بالمجتمع المصري، نجد من يستخدم أسلوب «اللف والدوران» ، الذي هو أخطر وأقبح من الكذب، ذلك للتحايل على القانون، وهذا ما سنقوم بتوضيحه في ثلاث مشاهد بهذا المقال.

المشهد الأول.. صباح يوم الخميس الموافق 16 مارس 2017، شنت مديرية أمن الشرقية برئاسة اللواء «رضا طبلية» حملة مكبرة لإغلاق المقاهي والمحال التجارية الغير مرخصة بمدينة الزقازيق، ذلك تطبيق للقرار الصادر من محافظ الشرقية اللواء «خالد سعيد» ، رأيت بأم عيني أفراد الحملة وهم  يقومون بإغلاق العديد من المقاهي، ووضع الشمع الأحمر على الأقفال، ذلك وسط حالة من التأييد تارة ، والرفض تارة من قبل المواطنون، حيث قال البعض لابدَّ من إغلاق تلك المقاهي لأنها لم تحصل على تراخيص وليس من حقها مباشرة هذا النشاط دون إجراء قانوني، وهذا رأى يحترم ، فيما فضل البعض أن يتم تقنين أوضع المقاهي وتسهيل إجراءات التراخيص حيث أن معظم العاملين فيها من الشباب الذي يأمل أن يوفر قوت يومه من العمل الخاص بعد أن عجزت الدولة عن توفير فرص عمل لهم، وذلك للحد من غول البطالة الذي يطوف الجمهورية من شرقها إلى غربها، وأنا من مؤيدي هذا الراي ، كان هذا المشهد تقريبا الساعة 12 ظهرًا، وبعد أن شاهدت بعينى تلك المقاهي وهي تتزين بالشمع الأحمر في الصباح، نزلت إلى الشارع متعمدًا لاستكمل المشهد بعد غروب الشمس ، ذلك للعلم ما إذا كان سيتم إغلاق المقاهي بشكل نهائي أم سينتهي الأمر إلى مجرد مانشيت في صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية فقط .

 

بالفعل نزلت إلى الشارع واتجهت إلى معظم الأماكن التي مرت بها الحملة، وإذ بي لم أجد أى آثار للشمع الأحمر، وجميع المقاهي تعمل بشكل طبيعي ، وبعد التقصى علمت أن أصحاب المقاهي قاموا بفض الشمع، ودفعوا 50 تقريبًا قيمة الغرامة بمجلس مدينة الزقازيق ، وأنتهى الأمر «وكأنك يا أبو زيد ما غزيت» ! لينتهي المشهد بقول « أبقى سلملي على جوزك يا إسماعيل بيه».

المشهد الثاني يوم الاحتفال بعيد الشهيد بمحافظة الشرقية الموافق 9 مارس 2017، أعلن أحد رجال الأعمال عن التبرع بتوفير عدد من رحلات العمرة لأسر الشهداء ، في الحقيقة لا ينكر أحد أن هذا العمل خيري، ولا أحد يستطيع أن يشق قلب صاحب هذا التبرع للكشف عن نيته ، وقبل التحليل لهذا المشهد ندعوا لصاحب هذا التبرع أن يتقبله الله إذا كان الهدف خيري بالفعل ، ولكن هذا المشهد جعلني أبحث عن تلك الأعمال الخيرية المشابهة التي يقوم بها رجال الأعمال المصريون .

 

بعد البحث وجدت أن معظم رجال الأعمال يقومون بهذه الأعمال لتحقيق هدفين ، الهدف الأول هو المساهمة في الأعمال الخيرية بالفعل ، والهدف الثاني هو المحايلة على القانون بفضل وبمباركة القانون الشرعي للتهرب من الضرائب بطريقة مشروعة ، حيث أن رجال الأعمال يقومون مثلا..  بدعم الأعمال خيرية بقيمة مالية، ومع نهاية العام يقومون بتقديم أوراق إلى مصلحة الضرائب تثبت أنهم ساهموا بالتبرع إلى صالح أعمال خيرية، وهذا يعفيهم بنسبة كبيرة من دفع القيمة الضريبية ، مثلا إذا قام رجل الأعمال بدفع مبلغ 10 آلاف جنيه لصالح الأعمال الخيرية، يستطيع بذلك بالتعافي من مليون جنيه تقريبًا كاقيمية ضريبية مستحقة، وبعد الانتهاء من تلك الإجراءات يقول  « أبقى سلملي على جوزك يا إسماعيل بيه» .

 

المشهد الثالث.. عام 2004 تقريبا، ، وفي يوم لا اتذكر تاريخه بالظبط، ايقظني صوت جرس هاتف منزلنا الأرضي .. وبعد أن رفعت السماعة وجدت أختى تقول لي ابن عمك أصيب في العمال وتم نقله إلى المستشفى، قولت لها حاضر «هصلي العصر وهروح المستشفى أطمن عليه»، وأنا في حالة من القلق بنسبة بسيطة جدًا والهدوء بنسبة أكبر ، حيث أنى توقعت أن الإصابة بسيطة وسيتم إسعافه في المستشفى وأنا لا أستطيع أن أقدم له من سيقوم به الأطباء، وبالفعل توجهت إلى الحمام لكي أتوضأ للصلاة قبل النزول من البيت ، وإذ بي أسمع صوت الهاتف يصرخ من جديد ، توجهت مسرعا للرد قبل أن أكمل الوضوء ، لأسمع صوت أختى من جديد بسماعة الهاتف ، وبنبرة يميزها الحزن تقول لي «البقاء لله ابن عمك مات» ، وإذ بى أصيب بحالة من الذهول ويتفجر داخلى بركان من الحزن، حيث أن كان الفرق بين المكالمة التي تلقيت فيها نبأ الإصابة الهدىء ، ونبأ الموت المفجع 5 دقائق فقط .

 

ابن عمي كان يكبرني في السن بعام واحد، وكنا نلعب مع بعض فى الصغر ، حيث أنه كان يبلغ من العمر 21 عام، وكان يعمل في مصانع رجل أعمال شهير، وبعد الوفاة كان عمى متمسك أن يتهم صاحب المصنع بالإهمال ، ولكن بعد أيام قليلة علمت أن رجل الأعمال وعد عمى وزوجة أن يتبرع لهم برحلة إلى زيارة بيت الله «الحج»، وبالفعل قبل عمي التبرع بحسن نية ، وتم التنازل عن إتهام صاحب العمل بالإهمال ، ذلك طبقا لنظرية المثل الشعبي المصري « الحى أبقى من الميت » وبهذا أستفاد عمى وزوجته من زيارة بيت الله الحرام  بحسن نية، ولكن الاستفادة الأكبر كانت إلى رجل الأعمال الذي تعافى من دفع قيمة ضريبية تفوق عشرات أضعاف قيمة المبلغ الذي دفعه تكلفة الرحلة ، مثلما وضحنا في المشهد الثاني.

 

نلخص من تلك المشاهد أننا أصبحنا نكذب ونتحايل على القانون، وأغفلنا أنقى وأجمل ما في الجنس البشري ، وهو الصدق ، حيث يوضح القرآن الكريم في الآية « 177 » من سورة البقرة فى قوله تعالى « أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون»  وفي الآية 263 من سورة البقرة، «يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى» ، وأيضا من صفات الصدق في الكتاب المقدس، «زينة الإنسان معروفة، والفقير خير من لكذب» ، «صن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلم بالغش» ، وفي النهاية أود أن أقول لحضراتكم .. ما أجمل أن تكون صادق حتى وأن كان المجتمع الذي تعيش فيه يسبح في بحر من الكذب والخيانة ، وما أروع أن تسعى لتنقذ الذين غرقوا فى بحر الكذب وتأخذهم معك إلى نهر الصدق ، لأن الحياة تزداد لذتها بالصدق والنقاء، والبعد عن الخيانة والكذب، ولا بدّ أن تكون مقولة «أبقى سلملي على جوزك» بينا للفكاهة فقط .

زر الذهاب إلى الأعلى