أعمدة

عمر طاهر | يكتب : أفلام أكتوبر.. قطعة حقيقية من الانتصار «1»

%d8%b9%d9%85%d8%b1-%d8%b7%d8%a7%d9%87%d8%b1كان فيلم (حكايات الغريب) هو المحرض الأول لي لزيارة السويس، عندما زرتها لأول مرة بعد إنتاج الفيلم بأكثر من خمسة وعشرين عامًا، كان أول شيء أفتش عنه هو البيوت التي تظهر عليها آثار الحرب، كنت أفتش عن سراب وسط سخرية أصدقائي السوايسة، لم أجد البيوت ولكنني وجدت الرائحة كما توقعتها في أثناء متابعة الفيلم، بواقي حزن خريفي خفيف، و حكايات تتناقلها الأجيال الجديدة.

كانت إجازة السادس من أكتوبر عندما دعاني زميلي في الكلية لقضاء اليوم معه في بيته في إحدى قرى القليوبية، وكانت المرة الأولى التي أتابع فيها الفيلم مدفوعًا بفضول تجاه مطربي المفضل محمد منير وكاتب أعرف قيمته من حكي المتخصصين، ولكنني لم يسبق لي أن أطلعت على أعماله (جمال الغيطاني)، وأسرني الفيلم ومنذ هذا اليوم أنتظره كل أكتوبر، ولم يحدث أن بردت الشحنة التي تخلفها مشاهدته، الشيء الوحيد الذي تغير أنه لم يعد فيلم محمد منير والغيطاني فقط، أصبح أيضًا فيلم السيناريست محمد حلمي هلال والموسيقى ياسر عبد الرحمن، مع لمسة المخرجة أنعام محمد علي في قطع خفيف على جنازة عبد الناصر، أو نقلة قوية من عمق فساد حسين الإمام إلى مشهد العبور، وفي الخلفية دائمًا كابتن غزالي والسويس.

نحن لا نسيطر على السويس.. إننا نحاصرها ولكننا لا نستطيع الدخول إليها»، هكذا صرح المتحدث العسكري الإسرائيلي صباح 25 أكتوبر 1973، كانت كلماته ترن في أذني بينما أدخل السويس للمرة الأولى في حياتي.

كنت أتلعثم في أتيليه (الكابتن غزالي) وأنا أعبر له عن حبي للسويس، قطع عليَّ طريق الارتباك وحل الفزورة قائلا إنها مدينة شاركت مصر كلها في بنائها، أي مصري أيا كانت المحافظة التي ينتمي إليها سينزل هنا ليجد تفريعة من العائلة أو على الأقل رابطة لأبناء مدينته، اختزال مصر في هذه المدينة جعلها محاطة بالمحبة.

قلت لنفسي ربما هذا الكم من الغرباء هو الذي جعل اسمها (بلد الغريب)، ولكنني تذكرت عندما كان القرامطة يقطعون طريق الحج إلى أن ظهر سيدي عبد الله الغريب القائد المغربي فحاربهم، وكانت نصيحته لجنوده وللحجاج (لا تأتوني فرادى ولكن تعالوا سواسية) فكانت السويس. ذكرني كرم أهل المدينة باستقبال السوايسة للجنود العائدين من الجبهة عقب 5 يونيو، خرجت المدينة بأكملها لتأخذ الجنود بالأحضان لتخفف عنهم الألم، اقتسموا معهم الطعام على ندرته، ثم خرجت مجموعات من شباب المدينة تخترق المدقات الصعبة ومنطقة الشط ومداخل سيناء بحثًا عن الجنود التائهين أو الذين أسقطهم التعب والعطش، كان العدو على الضفة الأخرى يتابع الموقف بشماتة، وهو يرى المدنيين يحملون الجنود المنهكين، فما كان من أهل السويس إلا أنهم جميعًا، خلعوا الملابس المدنية وارتدوا (الكاكي) ليقولوا للعدو إن المدينة كلها جنود، وعندما رفع العلم الإسرائيلي فوق الضفة الشرقية كانت الرسالة موجعة وكان لا بد من رد، اقترح البعض رفع العلم المصري، ولكن لا معنى لرفعه فوق أرض مصرية، كان الرد بإدارة ماكينات المصانع المتوقفة ليرتفع في سماء المدينة عاليًا دخان المصانع.

في كل بيت أسطورة تبدأ بشهيد أحسن استقبال دبابات العدو عند مداهمة المدينة عقب العبور، وتمر برجل مسن سحب شباب المدينة باتجاه بئر مهجورة ليحفروها تحت وطأة العطش الذي فرضه العدو على المدينة عند حصارها بقطع ترعة المياه العذبة، نهاية بأطفال في مرحلة التهجير استقلوا سيارات النقل المكشوفة مُهجَّرين من المدينة ليستقبلوا سنوات حياتهم الأولى غرباء في مدن أخرى قبل أن يعودوا بعد الحرب، في كل بيت رجل كبير عندما كان طفلا عمَّده أهله بأن غطسوه في «ماء الكنال» ليدبدب فوق مائها بقدميه دبدبة جندي مصري على ضرب السمسمية.

كنت أريد أن أقتلع قطعة من الأسفلت تصحبني في العودة، لكنني اكتفيت بأن أعود بعلَم السويس لأعلقه في غرفتي. في طريق العودة كنت أضع العلم فوق شباك باب السيارة ليقيني من الشمس، وطول الطريق كنت أفكر في العودة تماما كالأطفال المهجَّرين.

(2)

كتبت يومًا مقالا عن أفلام أكتوبر قلت فيه: يعتبر «محمود ياسين» الذي أحبه وأحترمه هو أكثر الفنانين مشاركة في حرب أكتوبر، شارك «محمود ياسين» في الحرب ست مرات دون أن يصاب بسوء يذكر، في حين استشهد كل من «أحمد زكي» في «العمر لحظة» و«السيد راضي» و«محمد صبحي» في «أبناء الصمت» وأصيب «محمود عبد العزيز» بشلل نصفي في «حتى آخر العمر».

كان «محمود ياسين» نموذجًا للجندي السينمائي، حيث لم يحافظ على المظهر التقليدي المتقشف للجندي المصري، فقد خاض «محمود ياسين» الحرب ست مرات بشعره المصفف وسوالفه العريضة كاملة، بذقن حليقة والبيادة التي تلمع كمرآة، والزي العسكري اللي لسه جاي من الدراي كلين، والأكمام المطوية بعناية وساعة اليد البراقة، بخلاف أن هذه الأفلام لم تقدم حكايات مهمة أو حقيقية من واقع الحرب، وأن كل ما أخشاه أن نرى هذه الأجيال الجديدة بعد سنوات تتحدث عن حرب أكتوبر وهي تقول بثقة مطلقة إن القوات المسلحة المصرية خاضت الحرب تحت قيادة الفنان «محمود ياسين»، بينما كان الجيش الإسرائيلي بقيادة الفنان «محيي إسماعيل».

بعدها بيوم كنت أجلس في بيتي في انتظار القيام بالمهمة السنوية: التنقل بين المحطات بحثًا عن أفلام أكتوبر، ووجدت فيلم “أغنية على الممر” في بدايته، فجلست أشاهد الفيلم بإخلاص شديد، لم يمر ببالي أن أجد بطل الفيلم يتصل بي تليفونيًّا، كان الفنان الكبير محمود ياسين أمامي على الشاشة ومعي على الموبايل في الوقت نفسه، عرفت بعد أن قال لي أنا فلان أنه بصدد مناقشتي في مقال أمس عن أفلام أكتوبر، قلت ربما انزعج من ملاحظة ساخرة على ما قدمته السينما المصرية من أفلام عن الحرب، وقد كنت محقًّا. حكى لي الفنان الكبير كيف كان تصوير هذه الأفلام عملا مرهقًا وضخمًا في الوقت نفسه.. تطلب منه البقاء على الجبهة أكثر من عام تحت إمرة مخرجين كبار، بينهم مخرجون إيطاليون متخصصون في تنفيذ المعارك، حكى لي عن الجنود الحقيقيين الذين كانوا يتعلمون منهم كيف دارت الحرب، حكى لي كيف استحال على الممثلين تسلق خط بارليف لتصوير هذا المشهد، بالرغم من أن الجندي العادي كان يتسلقه في ثوان أمامهم ليعلمهم الأمر، حكى لي عن رفقة أسماء كبيرة من لواءات الجيش كانت توجههم وتعدل عليهم أثناء العمل ودقة اهتمامهم بالتفاصيل، قال لي إن اللقطات التي تم تصويرها مثلا في (الرصاصة لا تزال في جيبي) هي اللقطات المستخدمة من يومها وحتى الآن في صناعة كل الكليبات والأغنيات الوطنية والتقارير ونشرات الأخبار والأفلام التسجيلية، قال إن جيله كان مخلصًا لهذه الأعمال دون توجيه من أحد أو أي تكليف من جهة ما وأن جيله فخور بها، ثم سألني ضاحكًا (إنتو بأه عملتوا إيه؟) وهنا سيطر علىَّ الصمت قبل أن أقول لنفسي وكلي خجل (عملنا.. يوم الكرامة

كانت ساعة مع بطل معظم هذه الأفلام في حوار يمتلئ بملاحظته الذكية التي جعلتني أضحك ملء قلبي، عندما قال (وبعدين إنت قلت إني اشتركت في ستة أفلام عن الحرب وماحصليش أي إصابة… إيه رأيك بأه إنهم في فيلم الوفاء العظيم قطعوا لي رجلي).

(3)

جاء السؤال مليئًا بالدهشة “هو إحنا هنغلبهم بالغنا؟” على لسان صلاح قابيل في فيلم “أغنية على الممر”. ربما فقدت المشاهد بعضًا من بريقها، لكن الغناء والموسيقى أصبحا الفن الذي خلد الانتصار في وجدان المصريين.

موسيقى عمر خورشيد كان عمرها في الخيال أطول من كل أبطال أفلامه، لم يعد مشهد الدبابات وهي تدخل السويس منفصلا عن موسيقى خورشيد في (الرصاصة لا تزال في جيبي)، ولم يعد مشهد العبور إلا جنودًا في غاية الفخامة الوطنية تعبر على موسيقى (حتى آخر العمر)، مأساة بحر البقر لم يخلدها في الوجدان شيء مثل كلمات فؤاد حداد (محافظتي الشرقية ومدرستي بحر البقر الابتدائية) مع ألحان بليغ حمدي.

(4)

وتلاميذ المدارس والنورج اللي دارس والعسكري اللي دايس.. ع الصعب علشان النصر.

أبكي أنزف أموت وتعيشي يا ضحكة مصر.. وتعيشي. (عبد الرحمن الأبنودي، ألحان حسن نشأت، أغنية على الممر).

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى