أعمدة

فهمى هويدى | يكتب : حق الشَّقَا

فهمى
إذا سقط اسم ابن عرضون الكبير من الذاكرة العربية، فينبغى أن يذكر على الأقل فى مناسبة الاحتفال باليوم العالمى للمرأة. صحيح أن نحو أربعمائة عام تفصل بين زمن الرجل وبين قرار الأمم المتحدة تحديد يوم للاحتفال بنضال المرأة والدعوة لإنصافها. إلا أن ابن عرضون سبق الجميع بفتواه الشهيرة، التى كانت بمثابة نقطة تحول فى ذلك المضمار. وهى الفتوى التى أسست لما عرف بحق «الكد والسعاية» ــ من الآية القرآنية ــ لكل امرئ ما سعى ــ أو «حق الشقا».
خلاصة رأى ابن عرضون أن كفاح المرأة وكدِّها أثناء الزواج ينبغى أن يوضع فى الحسبان بعد الطلاق أو الوفاة. لذلك فلها أن تحصل على نصف ثروة زوجها التى حققها أثناء ارتباطه بها وبعد ذلك تأخذ نصيبها من الميراث فى حالة وفاة الزوج. وهو ما اعتبر ثورة فى فقه الأسرة، أيدها البعض وانتقدها آخرون، ولكن يحسب لابن عرضون أنه أطلق شرارتها قبل أربعة قرون.
هو أبوالعباس أحمد بن الحسين بن عرضون، تصفه كتب الرجال بأنه الإمام العمدة والفقيه الموثق والقاضى العادل. تولى القضاء فى مدينة شفشاون بشمال المغرب فى أواخر القرن السادس عشر الميلادى. وعُد فى مقدمة فقهاء المذهب المالكى، الذين أثروا فتاوى النوازل (المستجدات) بثاقب نظره وغزير علمه وجرأته فى الحق. ولأن المجتمع الذى نشأ وعاش فيه جزء من البادية، التى كان الرجال فيها أهل حروب وقتال. فى حين تحملت النساء أعباء تسيير الحياة. من شئون البيت إلى أمور الزراعة والرعى، فإنه وجد أن ذلك الجهد لابد أن يقدر. وكان أحد الفقهاء المغاربة ــ اسمه السوسى نسبة إلى بلدة سوسه ــ قد وصف ما تقوم به المرأة فى البادية قائلا: إنها تقوم سحرا لتطحن، ثم تسخن ماء الوضوء مع الفجر، ثم تحلب البقرة، ثم تسقى من البئر بالقُلَّة على ظهرها. ثم إن أرادت أن تحطب فإنها تبكر. ولا تطلع الشمس إلا وهى وراء الروابى (فى الحقول) ثم لا تكاد تدخل الدار حتى تهيئ الغداء وترضع ولدها. ومن الواضح أن ذلك الجهد الكبير الذى كانت تبذله نساء البوادى ظل محل تقدير فى مجتمعات ذلك الزمان، لذلك سميت المرأة فى اللهجة الأمازيغية المتداولة بين البربر تامغارت، والكلمة مؤنث أمغار أى الشيخ رئيس القبيلة، وأطلقت الكلمة على المرأة باعتبارها رئيسة الأسرة وسيدة البيت.
حين سئل ابن رضون عن نصيب المرأة بعد انقضاء الزوجية بالطلاق أو الوفاة، فإنه أصدر فتواه فى أرجوزة على طريقة أغلب فقهاء المالكية قال فيها:
وخدمة النساء فى البوادى ــ للزوج بالدراس والحصاد
قال ابن عرضون لهن قسمة ــ على التساوى بحسب الخدمة
لكن أهل فاس فيها خالفوا ــ قالوا لهم فى ذاك عرف يُعرف
لم تمر فتوى ابن عرضون بسلام، لأن كثيرين عارضوه وآخرين أيدوه. والمؤيدون قالوا إن الفقيه الكبير رأى واقعا كان لابد أن يتفاعل معه، وقدر أن الجهد الزائد الذى تبذله المرأة المكافحة ينبغى أن يرتب لها حقوقا إضافية على ما قرره الشرع لها فى الظروف العادية. واعتبر أن ذلك من مقتضى العدل والإنصاف إلى جانب أنه يعبر عن تقدير فيض العطاء الذى تقدمه المرأة.
قال هؤلاء أيضا إن للمسألة أصلا فى الخبرة الإسلامية. ففى عهد الخليفة عمر بن الخطاب توفى عمر بن الحارث الذى كان زوجها لامرأة هى حبيبة بنت زرق. وكانت حبيبة نساجة طرازة، وكان زوجها يتاجر فيما تنتجه وتصلحه حتى اكتسبوا من جراء ذلك مالا وفيرا. ولما مات الزوج وترك المال والعقار فإن أولياءه تسلموا مفاتيح الخزائن. إلا أن الزوجة نازعتهم فى ذلك. وحين اختصموا إلى عمر بن الخطاب فإنه قضى لها بنصف المال وبالإرث فى الباقى. واعتبر مؤيدو ابن عرضون أن ما أقدم عليه خليفة المسلمين يعد سابقة يمكن القياس عليها فى استنباط حكم جديد يحقق العدل والإنصاف ضمن أحكام المواريث المقررة فى النصوص القرآنية. وهو ما أقرته ونصت عليه مدونة الأسرة فى المملكة المغربية لاحقا حين قررت أن للمرأة نصف مملتكات الزوج عند الطلاق أو الوفاة. وقد طبق نفس المبدأ فى قانون الأسرة بماليزيا. ومعروف أن هذا المبدأ معمول به فى القوانين المعمول بها فى الدول الغربية.
للأسف فإن اسم ابن عرضون لا يعرفه كثيرون فى بلادنا. استثنى من ذلك نفر من الباحثين والأكاديميين المهتمين بفقه النوازل. وأغلب الظن أن ذلك راجع إلى أن فقهاء المالكية لهم شهرتهم الأوسع فى بلاد المغرب، لأن المذهب المالكى هو الأول هناك، فى حين أن أغلب المشارقة من الأحناف والشافعية.
ليس ذلك هو السبب الوحيد لعدم معرفة كثيرين باسم ابن عرضون وفتواه، لأن أيضا حظ أمثاله من الفقهاء الشجعان الذين ملأوا الفقه الإسلامى باجتهاداتهم المنيرة. فنحن فى زمن ما عاد يذكر فيه من التراث الفقهى إلا ما هو مثير للنفور والبغض لأسباب بعضها استجابة للهوى والبعض الآخر ركوبا للموجة وميلا مع الريح السياسية وتسويغا للدعوة إلى الثورة الدينية!

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى