مقالات

فهمي هويدي | يكتب : الإفك المبين فى تغير موقف الإسرائيليين

فهمي هويدي

الفضيلة الوحيدة لأحاديث التطبيع أن اللعب فيها صار على المكشوف، إذ سقطت الأقنعة وغدا الكلام فيها مباشرا بغير مواربة أو حياء.
(١)
حين رفض لاعب الجودو المصرى إسلام الشهابى مصافحة خصمه الإسرائيلى فى أوليمبياد ريو، فإن أحد المثقفين المصريين انتقده فى عمود نشرته صحيفة المصرى اليوم (عدد ١٤ /٨) تحت عنوان «سقطة الشهابى». أما الرسام البرازيلى فينى أوليفيرا فقد كانت له قراءة مختلفة للمشهد. ذلك أنه رسم المتصارعين المصرى والإسرائيلى، لكنه أظهر العلم الإسرائيلى على صدر الأخير وهو يقطر دما. وأوحى بذلك للقارئ أن المصارع المصرى لم يرَ الإسرائيلى رياضيا ولا مصارعا، لكنه رآه قاتلا واستحضر التاريخ فى قطرات الدماء التى هطلت من العلم. وكان ذلك تعبيرا بليغا صوّر المفارقة بين مثقف مصرى من أنصار التطبيع سقطت القضية من ذاكرته، وبين فنان برازيلى شريف ظلت القضية حاضرة فى وعيه.
هذه اللقطة تشكل مدخلا لقراءة خطاب دعاة التطبيع من جانب المثقفين المصريين والعرب. ذلك أن أغلبهم ــ إن لم يكن كلهم ــ فعلوا ما فعله نموذج المثقف المصرى. حين سقطت من ذاكرته الجريمة التاريخية، بحيث لم يعد يرى سوى اتجاهات الريح والحسابات السياسية الراهنة. ولست أتردد فى التعميم على الأقل فهم فى مصر واحد من اثنين. إما أنهم يتجاهلون الجريمة تماما، فلا ذكر فى خطابهم عن اغتصاب فلسطين أو الاحتلال الاستيطانى. وفى أحسن أحوالهم فإنهم اعتبروا ربما أن هناك قضية ولكن لا ينبغى أن نشغل أنفسنا بها فى الوقت الراهن بعدما ضيعنا سنين طويلة من العمر فى رفع راياتها والهتاف لها.
هذا التجاهل لقضية الاغتصاب والاحتلال يعبر عن خلل فادح آخر فى الرؤية يهز أساس نظرية الأمن القومى المصرى والعربى. ذلك أن فكرة إقامة دولة لليهود إذا كانت حلما راود قادة الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر فإنها أيضا كانت استجابة للحرص الغربى على تطويق مصر وإقامة رأس حربة للغرب فى المشرق العربى. وأى قارئ لتاريخ الحركة الصهيونية يعرف جيدا أن من بين الأفكار المبكرة التى طرحت لإقامة وطن قومى لليهود أن تكون شبه جزيرة سيناء أو أوغندا مقرا له. والأولى داخل حدود مصر والثانية لدى منابع نيلها. وقد تحدث وزير المستعمرات البريطانى فى عام ١٩٠٣ عن حكم ذاتى لليهود فى أوغندا. كما سافر إلى هناك لذلك الغرض وفد يمثل المؤتمر اليهودى العالمى. إلا أنه عاد غير مقتنع بالفكرة. جرى الحديث أيضا عن وطن لهم فى ليبيا (على حدود مصر الغربية). ولكن رجحت فى النهاية أيضا فكرة إقامة الوطن فى فلسطين التى استمدت شرعيتها من الزعم الأسطورى بأنها «أرض الميعاد» التى خص الله بها «شعبه المختار». من ثم جاء اختيار فلسطين حلا توفيقيا استهدف إصابة ثلاثة عصافير بحجر واحد. الأول يلبى مطالب الوطن القومى الذى ألحت عليه الحركة الصهيونية. الثانى يهدد مصر ويراقبها. الثالث ينشئ القاعدة الغربية فى قلب العالم العربى. وكان ذلك وراء صدور وعد بلفور عام ١٩١٧، من جانب وزير خارجية بريطانيا، القوة الاستعمارية الكبرى فى ذلك الزمان.

(٢)
هذه الخلفية ظلت حاكمة للنظر المصرى إلى إسرائيل منذ ظهرت إلى الوجود. ومن ثم صارت أحد أهم أسس نظرية أمنها القومى. إلا أننا نسمع من دعاة التطبيع «اجتهادا» آخر يهدم النظرة من أساسها مستدعيا ثلاث حجج هى: أن إسرائيل اختلفت الآن وقدمت نموذجا مغايرا لذلك التى استقر فى أذهان جيلنا ــ وأنها صارت قوة مهمة فى المنطقة اقتصاديا وعسكريا الأمر الذى حولها إلى شريك فى رسم خرائطها وينبغى ألا تترك لتنفرد بذلك ــ الحجة الثالثة أن العرب قاطعوها طوال نحو سبعين عاما. لكن ذلك لم يغير شيئا، وإنما ظلت الرياح تجرى لصالحها طوال الوقت.
الحجة الأولى هى الأخطر والأكثر تدليسا. ذلك أن «إسرائيل الجديدة» حسب تعبيرهم هى الأسوأ فى تاريخها ــ من حيث هى الأكثر استعلاء ويمينية وعنفا. لن أستشهد فى ذلك بمقولات معارضين تاريخيين لسياساتها مثل ناعوم تشومسكى أستاذ اللغويات اليهودى الشهير المقيم فى الولايات المتحدة، ولا إسرائيل شاحاك الذى رأس منظمة حقوق الإنسان فى إسرائيل. ولن أستعرض آراء الناقدين لسياستها العنصرية والاستعمارية من أمثال جدعون ليفى وأميرة هاس فى كتاباتهما التى تنشرها صحيفة هاآرتس. لكننى سأنقل بعضا من مئات الشهادات الصادرة عن عناصر فى داخل النظام الحاكم منها ما يلى:

• شهادة البروفيسور زئيف شترنهال رئيس قسم العلوم السياسية فى الجامعة العبرية، ففى مقابلة أجراها مع موقع «يسرائيل بلاس» (فى ٢٤/ ٥/ ٢٠١٦) ذكر ما نصه: «ممارسات إسرائيل كدولة وكمجتمع تجاه الفلسطينيين تستند إلى بواعث فاشية، وهى تعيد إلى الأذهان ما أصبحت عليه ألمانيا بعد وصول النازيين إلى الحكم».

• إيهود باراك رئيس الوزراء ووزير الحرب الأسبق ذكر أنه: فى إسرائيل تتعاظم مظاهر الفاشية باطراد. والنخب السياسية الحاكمة تشجع على ذلك (صحيفة ميكور ريشون ٢٢/ ٥ / ٢٠١٦).

• المفكر الصهيونى اليمينى اينمار كرمز كرر الفكرة السابقة ذاتها فى نفس الجريدة (عدد ١٧/ ٥/ ٢٠١٦) حيث قال: بات واضحا أن المجتمع (الإسرائيلى) يمضى على ذات المنهج الذى سار عليه الألمان بعد صعود النازيين إلى الحكم.

• نائب رئيس هيئة أركان الجيش يائير جولان نقل عنه قوله: يقلقنى أن اسرائيل باتت تتجه ببطء لكن باطراد نحو المكان الذى كانت فيه ألمانيا فى ثلاثينيات القرن الماضى (هاآرتس ٥/ ٥/ ٢٠١٦).

• فى العلن يتباهى رئيس الوزراء نتنياهو بـ«بطولات» منظمة «اتسل» التى نفذت مذبحة دير ياسين الشهيرة (٩/ ٤/ ١٩٤٨) ويعتبر منفذيها «أبطالا» (هاآرتس ٣/ ٤/ ٢٠١٦).

• أطلقت بلدية مدينة بيت شميش اسم الجندى اليور أذاريا، الذى اعدم الفتى الفلسطينى الجريح عبدالسلام الشريف فى مارس الماضى (هاآرتس ٣١/ ٣/ ٢٠١٦).

• بين استطلاع أجرى بين الإسرائيليين أن أكثر من ٥٠٪ من الإسرائيليين يؤيدون التمثيل بجثث الفلسطينيين بعد قتلهم (معاريف ٧/ ١١/ ٢٠١٥).

(٣)
من الملاحظات المهمة فى هذا الصدد أن أفيجدور ليبرمان نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الحالى الذى يعد أحد رموز الإرهاب فى إسرائيل امتدح فى تصريح أخير العلاقة الاستراتيجية الناجحة بين إسرائيل ومصر. إذ اعتبرها أهم حليف لبلاده فى المنطقة. وهو ذاته الذى صرح فى عام 2009 بأن مصر أخطر على إسرائيل من إيران. أسوأ من ذلك أنه دعا إلى قصف السد العالى وإغراق مصر، وكان ــ ولايزال ــ يسخر من عملية السلام (الصحفى أورى أفنيرى اعتبر أن ضمه إلى حكومة نتنياهو عمل جنونى وانتحارى ــ هاآرتس ٢٥/ ٥/ ٢٠١٦).
هذا التباين فى موقف الرجل إزاء مصر قد يراه البعض تطورا «إيجابيا»، لكننى أزعم أن دلالاته أكبر وأعمق من ذلك التبسيط المخل والساذج. إذ لا يمكن لعاقل حتى فى داخل إسرائيل ذاتها وبين عناصر اليمين هناك أن يخطر على باله احتمال أن يكون الرجل قد تغير. لكن الذى تغير حقا هو الدور المصرى. فحين تحدث ليبرمان عن ضرب السد العالى فإنه كان يرى مصر الكبيرة التى لا سبيل إلى التعامل معها وكسر كبريائها إلا بمثل ذلك الأسلوب. لكن مصر بدت له على صورة أخرى فى السنوات الأخيرة، إذ يراها صغيرة تستحق التعاطف والمهادنة وليس القصف والإغراق. كما أنه رأى تأثير ذلك على أنظمة العالم العربى التى اقتنعت بأن عدوها الاستراتيجى بات إيران وليس إسرائيل. وهو ما يؤيد ما سبق أن قلته من أن المتغير الحقيقى فى المشهد كان الطرف المصرى والعربى، فى حين أن إسرائيل لم تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء سواء فى مخططات التوسع والاستيطان التى ترتفع مؤشراتها حينا بعد حين، أو فى الإصرار على قمع الفلسطينيين وإذلالهم.

(٤)
من أغرب ما روج له المطبعون الادعاء بأن إسرائيل تخطط لبناء شرق أوسط جديد تحتل فيه دورا مركزيا، ولا ينبغى على مصر أن تقف متفرجة إزاء ذلك. فذلك مستوى آخر من التدليس والتغليط يعظم من الدور الإسرائيلى ويلغى على نحو مدهش العالم العربى والإسلامى. حيث لا يرى فيها سوى أنظمة منبطحة وشعوب عاجزة. وهم يتخذون لحظة الانفراط والانكسار الحالية من جانب الأنظمة لكى يبنوا عليها رؤية للمستقبل. غير مدركين أن تلك لحظة عابرة فى التاريخ، اسهم الانكسار والانكفاء المصرى بدور أساسى فى إطلاقها. فى حين أن هذه ليست مصر الحقيقية. وأن الفوضى التى ضربت العالم العربى لا تعبر عن حقيقة الشعوب العربية. فضلا عن توتر العلاقات مع إيران أو مخاصمة تركيا ليس أبديا، ولكنه سحابة صيف لا تلبث أن تزول.
هم أيضا يسوغون الانبطاح بدعوى أنه بعد سبعين سنة من الخصام. فإن إسرائيل ازدادت تمكينا وقوة. بالمقابل فلا المقاطعة أفلحت ولا فلسطين تحررت ولا العالم العربى استفاق ونهض. وردى على ذلك أن الفشل ــ إذا صح ــ فإنه يحسب على الأنظمة وليس على الشعوب. وأنه يعالج باستعادة صوت الشعوب ودورها وليس التسليم للعدو. كما يكون بالسعى للملمة الصف العربى والإسلامى وليس تجاهله والارتماء فى أحضان العدو. وإذا تذكرنا أن الاحتلال هو الموضوع الرئيسى الذى لا يسقط بالتقادم. فلا حل له سوى المقاومة بأشكالها المختلفة. الأمر الذى يعنى أن التطبيع يظل غطاء للهزيمة الشاملة وإشهارا للانبطاح والإفلاس. وإذا طال به الأجل، فنحن مسئولون عن الالتزام بالموقف الشريف ولسنا مسئولين عن نتائجه. ولست أنسى فى هذا الصدد ما سمعته من الرئيس البوسنى الراحل على عزت بيجوفيتش بعدما وقع على اتفاق «دايتون» لإنهاء الحرب بين بلاده وصربيا (عام ١٩٩٥) حين قال: بوسع أى قائد أن يعقد ما شاء من اتفاقات لإقرار السلام. ولكن يحظر عليه أن يتنازل عن حقه الأساسى، فربما استطاعت الأجيال اللاحقة أن تستعيد ذلك الحق. إذ بوسعه أن يتعامل مع الحاضر قدر استطاعته. لكنه لا يملك الحق فى مصادرة المستقبل.
للموضوع بقية فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

الاقتباس
الفشل ــ إذا صح ــ فإنه يحسب على الأنظمة وليس على الشعوب. وأنه يعالج باستعادة صوت الشعوب ودورها وليس التسليم للعدو.

shady zaabl

كاتب صحفي مصري مهتم بالمواقع الإلكترونية وإدارتها وكتابة المقالات في جميع الأقسام وذو خبرة في الصحافة والإعلام والمحتوى لـ 5 سنوات وفقً لدراسة أكاديمية وتطبيق عملي .
زر الذهاب إلى الأعلى