أعمدة

محمد نور فرحات | يكتب : مصر والبرلمان الأوروبى وحقوق الإنسان

 

محمد نور فرحات

الطريقة التى تعاملت بها الدولة المصرية وإعلامها مع قرار البرلمان الأوروبى الأخير بشأن حالة حقوق الإنسان فى مصر، تحتاج إلى وقفة صادقة تقال فيها الحقائق ويوضح فيها المشهد دون مواربة. مصر دولة محورية فى عالم اليوم. مصر دولة تتواصل مع العالم اقتصاديا وثقافيا وحضاريا وإنسانيا. ومن المستحيل أن تصم أذنيها أو تغمض عينيها عن عالم اليوم بكل قيمه وثقافاته.

فلابد إذًا أن نتفهّم بموضوعية عالم اليوم بمؤسساته وقيمه، وأن نخاطبه بلغته، وأن نتحاور معه، نقنعه أو يقنعنا، تحقيقا للمصالح المتبادلة طويلة المدى.

من حق القارئ أن يعرف، ومن واجبنا أن نطرح أمامه الحقائق التالية:

أولا: ما هو البرلمان الأوروبى الذى أثارت مقرراته الأخيرة ثائرتنا؟ إنه مؤسسة منتخبة من الشعوب الأوروبية دون وساطة الحكومات، على أساس من الانتماءات السياسية لأعضائه بتعددها. الأغلبية فيه الآن لحزب الشعب الأوروبى، يليه التحالف التقدمى الاشتراكى، ثم تحالف الليبراليين والديمقراطيين وغيرهم. عدد أعضائه ٧٣٦ عضوا، وعملية التشريع والمبادرة به معقدة ومشتركة بينه وبين البرلمانات الوطنية، ولكن تأثيره الأكبر من خلال تعبيره عن الرأى العام للشعوب الأوروبية بتوصياته غير الملزمة رسميا، وإن كانت تمارس تأثيرًا ملموسًا على سياسات حكومات منتخبة ديمقراطيا تقيم وزنا لتوجهات شعوبها.

منذ أيام صدرت عن البرلمان الأوروبى توصيات بأغلبية ٥٨٨ عضوًا واعتراض ١٠ أعضاء وامتناع ٥٩ عضوًا عن حالة حقوق الإنسان فى مصر. أتوقف هنا عن الاستطراد بأن أنبه القارئ الذى قد يتساءل: وما شأن أوروبا بأمر حقوق الإنسان فى مصر؟ فأقول إن التذرع باعتبارات السيادة الوطنية لرفض تدخل المؤسسات الدولية فى الشأن الداخلى لحقوق الإنسان أصبح أمرًا ينتمى إلى عصور سحيقة ولغة لم يعد يفهمها العالم اليوم. فمن المستقر عليه ومنذ أبرم ميثاق الأمم المتحدة وحتى أبرمت مئات الاتفاقات وصدرت المئات من القرارات الأممية المعنية بهذه الحقوق، أصبح شأن حقوق الإنسان شأنا عالميا، خاصة بعد إنشاء المجلس الدولى لحقوق الإنسان الذى تتفاعل معه مصر بإيجابية. ثم إن اتفاقات الشراكة والتعاون بين مصر وأوروبا ينَص فيها صراحة على احترام حقوق الإنسان وحرياته. هناك تفصيلات كثيرة تتعلق بدعاوى العالمية والخصوصية، والانتقائية والازدواجية فى المعايير، ومزج الهوى السياسى بقضايا حقوق الإنسان، وهى كلها أمور يطول فيها الحديث. ولكن من المقطوع به أنه لا يجوز لأى دولة اليوم التذرع بالسيادة الوطنية لمنع الدول الأخرى من تناول ملفها الحقوقى. ماذا قال ممثلو الشعوب الأوروبية فى بيانهم البرلمانى؟.

أثاروا عدة تساؤلات، وعبروا عن آراء، وطالبوا مطالبات متعلقة بحالة حقوق الإنسان فى مصر.

تأتى فى المقدمة قضية الباحث الإيطالى جوليو ريجينى، الذى لقى مصرعه بطريقة وحشية فى مصر. أدان البيان الأوروبى تعذيبه واغتياله فى ظروف مريبة. وكان البيان حذرًا فلم يوجه اتهامًا لأحد بارتكاب الجريمة، ولكنه طالب بالحقيقة والعدالة. ودعا السلطات المصرية إلى تزويد السلطات الإيطالية بكافة المعلومات والوثائق من أجل تحقيق مشترك وشفاف وسريع فى ضوء التزامات مصر الدولية. واستجابت مصر فورًا لهذا المطلب واستقبلت وفدًا من المحققين الإيطاليين.

كما عبر البيان عن قلقه من حالات التعذيب والوفاة أثناء الاحتجاز، ومن حالات الاختفاء القسرى، مما يعده البيان انتهاكا للمادة الثانية من الاتفاق بين الاتحاد الأوروبى ومصر التى تنص على أن العلاقة بين الطرفين تقوم على احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وأدان البيان إغلاق مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب (مؤسسة أهلية) ودعا مصر إلى الإفراج عن المحتجزين بسبب ممارستهم حرية التعبير والتجمع السلمى، وتأمين المحاكمات العادلة وفقا للمعايير الدولية، وضمان حرية العمل المدنى، ومراجعة قانون التظاهر، وإعادة النظر فى التشريعات المخالفة للدستور المنتهكة للحريات، ودعا الاتحاد الأوروبى إلى التمسك بقرارات حظر تصدير التكنولوجيا والمعدات العسكرية ومعدات المراقبة عند وجود دلائل على استخدامها لارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وأعرب عن مشاركته هموم مصر كشريك استراتيجى فى التحديات الاقتصادية التى تواجهها وفى حربها الضارية ضد الإرهاب.

هذا هو ملخص ما ورد فى بيان البرلمان الأوروبى. وهو غير ملزم للحكومات. ولكنه يعبر عن ضمير شعوب أوروبا.

كنا نرجو أن يشكل المجلس القومى لحقوق الإنسان عندنا بالاشتراك مع وزارة الخارجية ومكتب النائب العام والبرلمان لجنة من الخبراء، تكون مهمتها ليس مجرد الدفاع والتبرير، وإنما تناول النقاط التى تعرّض لها القرار واحدة تلو الأخرى وكيفية التعامل معها، بما يحافظ على مصالح وحقوق الشعب المصرى أولًا، والدولة المصرية ثانيًا، والعلاقات المصرية الأوروبية ثالثًا.

بدلًا من ذلك جاء الرد على هذا التقرير من جهات ثلاث هى: وزارة الخارجية، ومكتب البرلمان المصرى ممثلا فى رئيسه ووكيليه، ووسائل الإعلام المعروفة بولائها لأجهزة الأمن. وانحصرت الردود فيما يلى: ١- ترديد عبارات مكررة عن السيادة الوطنية. وذلك رغم أن البيان أشار فى أكثر من موقع إلى اتفاقات ملزمة وقّعتها مصر مع دول الاتحاد الأوروبى وانخراطها فى منظومة حقوق الإنسان. ٢- الإشارة الى أن هناك انتهاكات لحقوق الإنسان فى دول أخرى. وكأن انتهاك الحريات فى بلد ما يبرر انتهاكنا لها فى بلادنا. أى أن جرائم الآخرين هى فى نظرنا مبرر لجرائمنا. ٣- الحديث عن عدم دقة مصادر المعلومات، دون أن نقدم معلومات بديلة موثقة. ثم كما جرت العادة، إهالة التراب على المنظمات المحلية (الممولة) التى تمد العالم بمعلومات مغلوطة تنفيذا لأجندات (مشبوهة) وتوعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور.

ملف التمويل والمنظمات الحقوقية لن أفتحه الآن، إذ سبقت لى إثارته فى الصحافة فى التسعينيات من القرن الماضى. وقد أتناوله مستقبلا. ولكن أشير فقط هنا إلى حقيقة مجهولة وهى أن التمويل الأجنبى لأنشطة حقوق الإنسان منصوص عليه فى اتفاقات للتعاون المشترك بين الحكومة المصرية وكثير من الحكومات والمنظمات الغربية المانحة. ولهذا حديث آخر ليس مجاله الآن.

هل جاءت الردود التى صدرت من الجانب المصرى على مستوى مخاطبة عقل وضمير الشعوب الأوروبية؟ أود أولًا أن أثبت الحقائق التالية:

١- من واقع زياراتى الدولية أشهد أن هناك تعاطفًا بين قطاعات تعبر عن الضمير الأوروبى وبين الإخوان المسلمين: تارة بدعوى أنهم أتى بهم الصندوق أو أنهم تعرضوا للإقصاء والقهر، أو غير ذلك. ولكن هل قام الإعلام المصرى والدولة المصرية بدورهما فى إيضاح الحقائق الموضوعية بطريقة يقبلها العقل الأوروبى؟ الإجابة بالنفى. نحن نخاطب الخارج بلغة الداخل. وفى المقابل ثمة جهد منظم لجماعة الإخوان فى مواقع التأثير الدولى نحو تشويه مصر ونظامها باستخدام الآليات القانونية والإعلامية الدولية تديرها بيوت خبرة متخصصة، ونحن لا نرد إلا ببعثات الدبلوماسية الشعبية التى تنعم بالسياحة.

٢- هل ينكر أحد أن باحثا إيطاليا قتل بعد تعذيبه ببشاعة فى مصر وألقيت جثته فى الصحراء المصرية؟ ودون استباق للتحقيقات، هل قامت الدولة بواجبها بكشف الغموض عن الحدث وقد مرت عليه شهور ثلاثة؟ ولماذا كانت التسريبات المتضاربة وغير المقنعة؟.

٣- هل ينكر أحد ما ورد بتقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان (وهو مؤسسة حكومية) عن التعذيب، والموت فى سيارات الترحيلات وأماكن الاحتجاز، وعن الاختفاء القسرى أو القبض خارج نطاق القانون، وعن استخدام الحبس الاحتياطى طويل المدة بديلا عن الاعتقال؟ لقد صرح الرئيس نفسه بأن هناك مظلومين سيرفع عنهم الظلم. وأهم وسائل منع الظلم فى رأيى هى الحيلولة دون تكراره. فهل حدث شىء؟.

٤- هل هناك قضاة فى العالم يتباهون بأنهم قضاة إعدامات؟ أو يحيل بعضهم أوراق المئات إلى المفتى؟ وكم عدد أحكام الإعدام التى قُضِى بنقضها؟ (وقد أثبت التاريخ الحديث أن محكمة النقض هى درع الحرية والحق فى مصر). يعلم الجميع أن قضاءنا مستقل، ولكن التأثيرات الدولية لأحكام قضائية معينة جرى نقضها يجب أن تؤخذ فى الاعتبار. (ملاحظة: أحد شروط قبول الدول فى الاتحاد الأوروبى إلغاء عقوبة الإعدام).

٥- نعم مصر فى حالة حرب. ولكن للإنسان حقوق بالقانون والدين حتى فى حالة الحرب. والمقابلة بين الأمن والحرية مقابلة زائفة تنمّ عن عدم كفاءة. وحتى تكتسب مصر الدعم الدولى فى مكافحتها الإرهاب عليها أن تتحدث مع العالم بلغة العصر لا بلغة المراوغة والقهر، وأن تتبنّى قيم عالم اليوم وتلتزم بها، حتى ولو انتهكها الآخرون.

 

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى