مقالات القراء

مقالات القراء|محمد فتحى الجابرى يكتب:المجنون وقارورة العطر

كلُ مَن يرى عينيه المنتفختين وتلك النظرة الرخوة الثقيلة يعرفُ أنه مُدمن ، يستيقظُ عصر كل يوم وقبل أن يغتسل يُخرج قاروة العِطر ويعطر نفسهُ كثيرا ويملئ الغرفة بتلك الرائحة شديدة الجاذبية , يشعل جهاز الأسطوانات المُدمجة لتنبعث منه مقطوعة( قداس الموتى) لموتسارت بصوتٍ عالِ جداً يصم الأذان ويظل يتمايل في الغرفة كأنه يراقصُ شبحا،والرقص علي هذة المقطوعة الموسيقية لا يشابه أي رقص نعرفه.
يقع علي السرير من التعب وسريرة مملوء بكافة أشكال الملابس والحجرة كلها وكأنها عنوان قصيدة الفوضي ،أعقاب السجائر مُلقاه في كل مكان والمكان الوحيد الذي لا توجد بهِ هو منفضة السجائر بينما عشرات الكتب ملقاه بإهمال علي المكتب .
صوت الموسيقي يعلو لدرجة تبعث الرجفة في الأبدان ، يُغمض عينيه بقوة وهو ملقى بنصفهِ العلوي علي الفراش وصوت الموسيقي يذداد ، أحد الجيران يفتح نافذته ويسب بأقذع الألفاظ هذا الصوت العالِ ، تتداخل الأصوات صوت المعزوفة مع صوت الجار مع صوت ألات التنبية للسيارت ويبقي صوتها برغم كل هذا واضحا كالشمس في كبد السماء . تنادي عليهِ بأنفاس لاهثة وصوت مستغيث _ حسام إني أغرق ، حسااااااااااااام 
امواج البحر تتلاطم وموتسارت منفعل جدا في موسيقاه المُرعبة وصوت المقرأ جهوري 
(يا أيتها النفسُ المُطمئنة ارجعي إلي ربكِ راضيةً مرضية)
الأصوات تتهادي تتناعم تعود من حيث أتت ، يسود الهدوء المكان ، يفتحُ عينيهِ التي مُلئتْ بالدمع، والصوت الناعم يتسلل لأذنيهِ 
(حبيبي ضع يدك هنا ، ألا تسمع شيئاً ؟، نعم يا عمري أنا حُبلي ، سبعة اشهر فقط وسيأتي ولي العهد ، ستكون أبا يا حُسام ) 
يقول الطبيب في أسف ( لقد كان هناك جنين داخل الجثة ، لا حول ولا قوة إلا بالله )
يعتدل علي الفراش ويرتدي حذاءه يتعثر اثناء السير في علبة من الورق المقوي كتب عليها بيتزا هت وبعد ساعتين كان في عربة المترو .
اهتزازات عنيفة للمترو السريع ، الظلام حالك بالخارج بينما بالداخل الأضواء خابية وبرغم الظلام النسبي تجد من يقرأ في مصحف ، وتعود الأصوات تتداخل صوت طنين المترو مع همهمات القارئ وصوت الأم الفلاحة البسيطة محذرةً أطفالها وصوت الرضيع الصارخ ومن بين كل تلك الأصوات يتسلل الصوت نقيا خاليا من اي شوائب صوت أخيه الذي يقول ناصحاً 
(إلي متي ستظل هكذا ؟ لقد أصبحت أقرب إلي مزبلة بشرية تحملها قدمان ، منذ وفاة زوجتك وأنت تدخن وتركت عملك واعتزلت الحياة ويبدو أنك تدمن شيئا لا نعرفه)
الطريق يطول والمحطة التاليه تأخذ وقت أكثر من اللازم لبلوغها ويبدو أن المحطة لن تأتي ، ومن بين كل تلك التداخلات تنساب تلك الرائحة إلي أنفه لتلغي كل شئ تلغي الأضواء وزحام الاصوات ليتوقف الزمن وتُشحذ كل خلايا الجسم وتتعاون للوصول لمركز تلك الرائحة ، يسير محافظا علي اتزانه رغم الإهتزازات العنيفة التي تلقي الناس علي بعضها ، صوت صفعة قوية يبدو انا احداً قد تحرش بفتاة اثناء تمايل المترو ، خطوتتين للامام ثم خطوة لليسار ومعاودة الاتجاه قُدماً ، روائح العرق تملئ المكان ،يمر بين الأجساد الطرية ويعتذر عن سوء السلوك .
الرائحة تقترب ، رجلٌ يتأوه لأن شخص ما وطأ قدمه ، يعتذر مرة أخرى وما يزال يتبع الرائحة التي تذداد وتذداد وتذداد .
والمحطةُ لا تأتي 
ووصل إلي مركز الرائحة ووجد نفسه امام ثلاث فتيات ولم تخنهُ أنفه التي أدمنت هذا العطر الباريسي الساحر ومباشرةً اتجه الي الفتاة الوسطى .
جو شبة مظلم تقريبا لا تتبين فيه اي ملامح ويقترب هو بوجهه من الفتاه ويعانق رائحة العطر بأنفه منتشيا بينما الفتاه تتوجس خيفه من هذا المجنون الذي يقترب أكثر وأكثر و
صرخت الفتاه متهمة إياه بالتحرش ، القوم يجذبونه بعيدا بينما هو يسرق بأنفه أنفاس العطر منها وانهال عليه القوم ضربا مبرحا 
والمحطة لا تأتي .
تُصاب الأضواء بالجنون تُضاء وتطفأ بسرعة غريبة وبإيقاع غير منتظم يشبة إيقاع الضرب المُنهال عليه ، شريط سينمائي يمر في لحظة عابرة تقع منه صورة مع كل نقطة دم تقع من أنفهِ أو شفتهِ النازفة .
يحتضنها بقوة ويدفن أنفه في عُنقها قائلا 
(يسكرُ الناسُ من الخمر وأنا اسكر من عطرك الساحر يا زوجتي الحبيبة)
حفل الزفازف الكبير ، سرادق العزاء الرهيب ، مهد الطفل الذي لم يولد بعد يتمايل في قوة .
ومازال الضربُ مستمرا
تُضاء الأنوار فجأة فتغشى العيون ، الكلُ يغمض عينيه إلا هو ويمد يده للفتاه في رجاء ، الابواب تفتح ، تغادر الفتاة سريعاً ويبقى هو مُلقى علي أرضية عربة المترو وتسيل الدماء من انفه بينما عينيه متورمة قليلا مع بعض الإحمرار ثم يعتدل ويبدأ النزول من العربة حبوا ليلقي جسده علي الرصيف ينظر لها وهي تختفي بين الجموع .
يسحب نفسا عميقا في محاولة يائسة لإصطياد العطر الهارب لكن الروائح تتداخل من جديد .
مئات البشر يتحركون علي الرصيف وداخل المحطة بينما يجر هو قدميه جرا ويسير حتي السلم الكهربائي ، يلقي نفسهُ عليه جالسا واضعا رأسه بين كفيه ،
صورة الزفاف تملئ الحائط ، تصغر فجأة لتوضع بجانبها صورة ذات شريط اسود ، 
السلم يصل للقمة ، يساعده رجل علي النهوض ومغادرة السلم ، يسير مترنحا بمظهره الرث حتي يصعد السلم خارجا من المحطة ، يستنشق نسمات هواء الليل الصيفي العليل ثم يجلس قليلا في الخارج ، تنظر له فتاه في اسف ثم تضع في يده ورقة نقدية من فئة الخمسة جنيهات ، ينظر للورقة ويقرأ عليها ( إلي حبيبتي سارة، كل عام وانتِ بخير ) يبتسم في سخرية ثم يُلقيها علي امتداد ذراعه .
يخرج قارورة العطر الرفيعة من جيب بنطاله الجينس ويغرق نفسهُ بها ثم يفرغ كمية كبيرة علي احدي يديه ثم يدلك اليدين ويدفن وجهه فيهما ويظل يشم بعمق ويتنهد بارتياح وكأنما تناول جرعته من الهيروين ثم يسند رأسه علي الجدار ناظرا للسماء .
يمرُ به مارٌ فتستوقفة رائحة العطر النفاذة يتأمل قاروة العطر ويقول له ( ما هذا ؟ أتتعطر بعطر حريمي يا رجل ؟) ينظر له بعينين زائغتين قائلا
( انا لا أتعطر، إنما أنا أتذكر )

بقلم : محمد فتحي الجابري  

Eman Salem

كاتب صحفي ورئيس تحرير موقع الشرقية توداي
زر الذهاب إلى الأعلى