أحمد خالد توفيق | يكتب : يعرف ما ينبغي عمله
مشهد طريف لا أنساه في مسرحية الهمجي لمحمد صبحي. أعتقد أنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها الفنان المتميز صلاح عبد الله في حياتي، وكان يلعب دور العليم بكل شيء، والذي يملك حلا لكل مشكلة، ويردد طيلة الوقت في تعال وثقة: “خبرة”. تذكر هذا المشهد عند الساعة 1:49 من المسرحية. بالطبع كانت نتائج الثقة فيه كارثية، وكما توقع محمد صبحي منذ البداية، فمن الواضح أن خبرة الرجل كانت تنحصر في (سرقة الحنفيات).
هناك أشخاص يثقون بأنفسهم أكثر من اللازم، لدرجة أنك لا تجد مجالا للتفكير أو التريث فهم يغرقونك في عاصفة من الجعجعة والتباهي، والكارثة الحقيقية هي أن تسقط في حبائلهم. ولقد قابلت من هؤلاء كثيرين.
ثمة قصة جميلة للساخر الأمريكي مارك توين، من مجموعته القصصية (معتوهون في الخارج)، يحكي فيها عن شاب أمريكي خجول يجوب شرق أوروبا، ثم يجلس في حانة ليحكي لأصحابه أنه يتوق بشدة إلى أن يرى سانت بطرسبورج بجمالها ومباهجها، لكنه يفتقر إلى روح المغامرة، ويردد مقولة أبيه عن أنه كان ينبغي أن يولد فتاة. هنا يسمع كلامه رجل أمريكي (حشري) ذو شارب كث ومظهر عسكري. ينقض على الفتى ليدعوه للشراب ثم يحدثه عن مباهج بطرسبورج. لا بد من أن تراها. ويقدم نفسه باسم الكولونيل .. كل واحد يعرفني .. أعرف كل شيء وذهبت لكل مكان .
الفتى لا يملك تأشيرة دخول الأراضي الروسية، وليس معه جواز السفر الخاص به، لكن الكولونيل يكلف أحد خدم الفندق بأن يرسل الجواز بريديا إلى فندق معين في سانت بطرسبورج. يؤكد للفتى: “إن الأمير يعرفني .. كلهم يعرفونني. سوف يضع لك الأمير تأشيرة على جواز السفر وأنت في الأراضي الروسية، فلا تقلق”. الفتى البائس لا يجد فرصة للاعتراض أو المقاومة، بينما الكولونيل الذي يعرف كل شيء يأخذه بعربة تجرها الخيول إلى الحدود، وهناك يؤكد للجنود الروس أنه صديق الأمير .. الكل يعرفونه .. وينجح في جعل الفتى يتسلل عبر الحدود دون أن يلاحظه أحد. هما الآن في سانت بطرسبورج المغطاة بالثلوج .. يقصدان الفندق الذي أرسل الجواز عليه، ليسأل عن جواز السفر الخاص بالفتى، فيكتشفان أنه متأخر .. لم يصل بعد .. لا مشكلة .. الكل يعرفونني .. الأمير صديقي وسوف يعطيك تصريح سفر.
في قصر الأمير الروسي يهلل الكولونيل ويحتضن الأمير باعتباره صديقه القديم، فيقابله هذا بشيء من الفتور. ثم يخبره بأن هذا الفتى لا يحمل جواز سفر. يتغير وجه الأمير ويأمر رجاله باعتقال الفتى، ويقول للكولونيل: “كان عليك ألا تزج بهذا الفتى البائس في هذه المغامرة!.. الآن هو متسلل بلا جواز سفر إلى الأراضي الروسية ولسوف نرسله إلى سيبيريا!!.. ليس أمامي حل آخر”. طبعًا سقط الفتى مغشيا عليه هنا.
يردد الكولونيل أن الجميع يعرفونه.. جواز السفر سيأتي حتمًا. فقط فليمنحه الأمير مهلة. هكذا يوافق الأمير على مضض على الانتظار حتى منتصف الليل، بشرط أن يظل حارسان مسلحان يحرسان الفتى البائس حتى وهو في الفندق. يقضي الفتى أسود ساعاته وهو يكتب خطابه الأخير لأمه . لو ذهبت لسيبيريا فلسوف أموت ويتحطم قلبي. هذه لحظاتي الأخيرة يا أماه فسامحيني..
المهم أن الكولونيل يحاول محاولة أخيرة، فمن الواضح أن جواز السفر ضاع في الطريق. يأخذ الفتى -والجنديان يحرسانه- للقنصلية الأمريكية لاستخراج وثيقة سفر، وهناك يؤكد أن الكل يعرفونه .. كلهم أصدقائي .. يحاول الفتى بصعوبة أن يثبت أمريكيته لموظف السفارة قبل منتصف الليل! نهاية القصة سعيدة على كل حال، لكن توين يضعك في قلب المأزق لدرجة أنك تشعر بالتورط الشديد .. إنها قصة مرعبة ولا أعتبرها ساخرة بحال.
المهم أن الكولونيل يحاول محاولة أخيرة، فمن الواضح أن جواز السفر ضاع في الطريق. يأخذ الفتى -والجنديان يحرسانه- للقنصلية الأمريكية لاستخراج وثيقة سفر، وهناك يؤكد أن الكل يعرفونه .. كلهم أصدقائي .. يحاول الفتى بصعوبة أن يثبت أمريكيته لموظف السفارة قبل منتصف الليل! نهاية القصة سعيدة على كل حال، لكن توين يضعك في قلب المأزق لدرجة أنك تشعر بالتورط الشديد .. إنها قصة مرعبة ولا أعتبرها ساخرة بحال.
كل من حاول اقتناء سيارة وقع في قبضة واحد من هؤلاء، وما أعنيه هنا ليس صاحب السيارة ولا السمسار مثلا، فهذان مهمتهما في الحياة أن يخدعاك وهي مهمة محترمة مبررة، ولكن أتكلم عن الصديق المتحمس الذي يعرف كل شيء ولا يترك لك فرصة للتفكير. إن لذة الظهور بمظهر العليم بكل شيء أقوى من أي لذة جنسية أو مكسب مادي. تتأمل السيارة في شك فيصرخ والعرق ينهمر منه: “فيم تفكر؟ هذه فرصة لا تعوض”. تتحدث عن أخذ رأي سمكري أو ميكانيكي، فيصرخ غاضبًا لأنك لا تثق به، ويؤكد أن السمكري والميكانيكي يبيعانك عند أول غمزة من صاحب السيارة. هل تعرف الولد سيد حباجة؟ لقد أقسم له السمكري إن السيارة بحالتها ثم تبين أن الشاسيه ملحوم وأنها سيارة مقلوبة و(راشة دواخل). هكذا يوشك على أن يقول لك إن الجميع يعرفونني .. أنا الكولونيل.
في 90% من الحالات تشتري السيارة ليتبين لك أنها مأزق لا خلاص منه إلا بكولونيل آخر يعرفه الجميع، وهذا الكولونيل سيغسل مخ زبون آخر يشتري منك السيارة اللعينة.
لم أجرب عالم البورصة ولعبة الأسهم قط، وأعرف أنها عملية بالغة التعقيد. لكن عالم البورصة يعجّ بهؤلاء الذين يعرفون كل شيء .. ثق بي.. الكل يعرفونني وأنا أعرف الجميع وذهبت لكل مكان. لي صديق وقع في يد واحد من هؤلاء، ظل يقنعه بأن الخسارة احتمال واه جدا والربح وفير. هو يعرف كل شيء والأسهم التي ينبغي شراؤها.. إلخ.
بالطبع عندما انهار كل شيء وخسر صديقي 200 ألف جنيه في أسبوع واحد، قال الكولونيل الخبير إن هذا شيء طبيعي .. لا بد لك أن تقبل المكسب والخسارة معًا.
في عالم الطب مررت بتجربة قاسية وأنا طبيب امتياز. جاء ذلك المريض ذو الوجه المحتقن للاستقبال العام، وقال لاهثًا إنه مصاب بربو شديد. طلبت منه أن يرقد على سرير الكشف، هنا هب صديقي الطبيب، موشكًا على أن يموت ضحكًا من بلاهتي، وراح يؤكد لي بالإنجليزية أن هذا رجل مجنون يأتي كل ليلة ليقول نفس الكلام ويضيع وقتنا .. لا تضيع وقتك أنت الآخر .. اطرده .. حاولت أن أفتح فمي لكن صاحبي كان كالعاصفة .. هيه !.. لا تكن أبله .. ثق بكلامي .. إخص!… يا لك من أحمق .. هلم .. صدقني !.. إخص!… وكتب للمريض أقراص فيتامين وطرده قبل أن أتكلم.
يعرف من سمعوا مني هذه القصة أن الطبيب المقيم ليلتها د.حسام فايد، جاء بعد قليل ليسألنا عمن فحص مريض هبوط القلب والجلطة الرئوية، الذي خرج من غرفة الاستقبال ليسقط فاقد الوعي عند قدميه!
نقلوا المريض للعناية المركزة، بينما بحثت عن صديقي الخبير فلم أجد له أثرًا! مشكلتنا أننا محاصرون بأشخاص يعرفون كل شيء وذهبوا لكل مكان.. فلا تتعب نفسك وتفكر كثيرًا.. عليك أن تصمت وتنتظر النتائج فحسب.
المصدر