مقالات

أحمد رشاد| يكتب: ذهاب وعودة

رشاد

ذات يوم شديد الحرارة كباقي ايام صيف الخليج طرق باب غرفة غريب حارس العمارة مندوب من الشركة المالكة للعقار ليخبره وبكل أسف أنه لا مجال لتجديد اقامته حيث انه بلغ السن القانوني للتقاعد وليس لديه أكثر من أسبوعين فقط لمغادرة البلاد ، تمتم غريب ….. أسبوعين فقط !!

بعد ان قضيت 40 عاما متصلة دون أجازة واحدة . مر شريط ذكرياته في لمح البصر، تذكر أول يوم سافر فيه وتعاقده مع شركة المقاولين العرب لمدة عام واحد فقط ؛ حتي يستطيع تجهيز نفقات زواجه من خطيبته ، وبنت عمه أسرار التي كتب كتابه عليها قبل سفره بيوم ،
وكيف أصبحت سنة الغربة 400 عام بعد أن أستلم خطاب له من جاره الوحيد الذي يجيد الكتابه والقراءة بدران ليخبره فيه ان أخوه قد قتل جارهم في الحقل حسانين عبدالصمد ، وتم القبض عليه ،وعليه ألا يفكر في العوده نهائيا ، حتي لا تثأر منه عائلة حسانين .

كان متبقي شهرا واحدا فقط علي موعد عودته وحلم زفافه من اسرار ولكن الان مات الحلم ، ولا مجال للتفكير في العوده ، يفكر الان ماذا يفعل هل يطلق خطيبته.

بعدها بثلاثة ايام تلقي خطاب اخر نصفه من امه ، وبقية الخطاب من اسرار كتب بيد بدران سمع صوت حزن امه وبكائها وحب اسرار، واشتياقها ، وفقدها لامل زواجها بين السطور . أخبرته امه ما حدث وان اخوه حكم عليه بالسجن المؤبد ، وان عاد سيقتل لا محاله وعليه ان يغير مكان اقامته ، وعمله , ولا يخبر أحدا بمكانه الجديد في الخارج ؛ لانها سمعت ان عائلة القتيل تخطط لارسال أحد أبنائها لقتله في الخليج ، وأخبرته اسرار أنها ستعتني بأمه وأن يعتني هو بنفسه .

أرسل الي والدته حصيلة ما ادخره في العشر شهور وكتب لها يصبرها علي فراق ابنيها ، وان تاخذ نصف ما ارسله لنفسها وتعطي لاسرار النصف الاخر، وتطلقها بتوكيل منه ، وأن تخبر اسرار انه فعل ذلك لانه يحبها ، ولا يرضي لها ان تظل معلقه بقيه عمرها

بعد ان غادر العنوان القديم بخمسة شهور عاد الي مقر الشركه يسال علي اي جوابات باسمه فوجد خطابا واحدا من بدران يخبره فيه بان امه قد فارقت الحياة ، وان اسرار تزوجت ،وعليه ان ينسي موضوع عودته نهائيا للحفاظ علي حياته ، ولا يقلق عي الارض والبيت فسيعتني بهما لحين خروج اخوه من السجن، او عودته ان فكر في ذلك ، وبذلك يكون قد الغي غريب فكرة العودة نهائيا الي مصر بعد موت امه وسجن اخيه وطلاق اسرار . ولكنه لا يعلم انه وبعد 40 سنه سيعود مضطرا ورغم انفه الي وطنه .

بات غريب ليلته يفكر فيما سيفعل ! واخيرا قرر انه لا محاله من العودة للوطن وان يدفع لأهل القتيل الديه من مكافئة نهايه خدمته، وان يقدم لهم الكفن ربما بعد 40 عاما يعفوا عنه بعد ان صار عمره 60 عاما ، او يقبلوا الديه ولكنه يعلم ان قبول الديه ، والعفو في جنوب مصر احتمال ضعيف جدا ، ولكن لا مفر من السفر.

انهى غريب اجراءات الغاء اقامته واستلم مستحقاته واشتري قماشه صوف زرقاء وطلب من الخياط ان يصنع له جلباب مصري واشتري عمامه بيضاء جديده , والغريب ان غريب برغم بعده عن وطنه كل هذه المده وحتي عدم مخالطته لابناء جاليته الا انه مازال محتفظا بزيه الشعبي كل هذه السنوات واشتري ايضا قماش ابيض (الكفن).

في يوم السفر صباحا رتب الغريب حقائبه وجهز نفسه واغتسل وتطيب وفي نيته انه يتجهز للدفن , ونظر في المرأة ورأي الشيب في ما تبقي في رأسه من شعر ووجهه ملئ بالتجاعيد وكيف اصبح نحيل الجسم ولم يتبقي من اسنانه الا ناب واحد , وتذكر عندما كان ينظر في مرأة بيته في مصر يوم سفر كيف كان شعره كثيف مجعد اسود وكيف كان مصفوف الاسنان مفتول العضلات , وفجأة سقط اخر ناب له من فمه ونزف قليلا ليتيقن انه ميت لا محاله .

ذهب غريب الي المطار وبدأ في وزن امتعته وكان يظهر عليه علامات الارق وعدم القدرة علي المشي من شدة الخوف . فساله الموظف هل انت في حاجة الي كرسي متحرك ؟هز غريب رأسه بالموافقه . احضروا له الكرسي ولكنه وكعادة اهل الصعيد استحي ان ينظر اليه الناس بعين الشفقه فلم يستعمله وتحامل علي نفسه ومشي الي ان صعد الطائرة . يجلس بجوارة علي متن الطائرة سيدة ومعها رضيع لا يكف عن البكاء ولا تكف هي عن تدليل ابنها فتذكر امه وحنانها , ويجلس ايضا عريس وعروسة مسافرين لقضاء شهر العسل علي ضفاف النيل تذكر ساعتها حبيبته اسرار , وفي الصف الخلفي سيده تبكي ! توفي زوجها ومنقول معهم علي نفس الطائرة ليدفن في مصر تمني غريب ساعتها انه لو كان هو من في الصندوق . علي الطائرات حياة متكامله تشبه الحياة علي الارض .

هبطت الطائرة بسلام في مطار الاقصر الدولى ، استقل غريب سيارة أجرة من المطار الي قريته التي تبعد 45 كيلو متر عن المطار كان في دهشة لما شاهد من تغيرات في المباني والطرق وملابس وأشكال الناس، وصل إلى مدخل القرية أوقف السائق وطلب منه أن ينزله أمام المقهى، جلس في المقهى ليستريح ويشرب كوب شاي ويتحسس ويسأل عن اخبار أهله، وفجأة سمع عامل المقهى يرحب بشخص كبير السن يدعي حسانين!

أكد غريب في ملامح العجوز ! إنه يشبه حسانين الذي قتله أخى. سأل غريب عامل المقهى ما اسم هذا الرجل .أخبره بأنه يدعي الحاج حسانين عبدالصمد!!!

غريب يكاد أن يفقد عقله . ماذا؟ ألم يخبروني بأنه قتل . هناك شيء لابد أن أعرف ، تقدم غريب نحو الرجل وناداه بأسمه ؟ رد عليه نعم تفضل !!!! ساله غريب ألا تذكرنى انا غريب جارك في الحقل … رد الرجل يااااه غريب تذكرتك واين كنت كل هذه السنين سمعت انك كنت مسجون واخبار اخري تقول انك توفيت . تركه غريب وجري نحو بيت اهله وعلي كتفه حقيبته وهو متيقن بأنه تعرض للخيانه .

في الطريق الي البيت تاه اكثر من مرة في الشوارع كل شئ تغير ألا شجرة الجميز العجوز التي كانت تميز بيتهم عن باقي البيوت. ولكنه وجد مكان بيتهم الريفي القديم بيت حديث البناء من ثلاث طوابق , وجد باب البيت موارب قليلا , دفع الباب ودخل الي فناء البيت واذ بشاب ثلاثيني يمسك به ويقول له لماذا تدخل البيت هكذا ربما انت لص , وغريب ينظر له ويبكي لا يستطيع التحدث … واذا بااخيه قد تغير شكله يسأل الشاب من هذا ياولدي وقبل ان يرد الشاب رد غريب بصوت مكتوم أخي انا غريب … خلع الرجل نظارته ولبسها مرة اخري … اخي .. اخي من .. غريب !!!! واحتضنا بعضهما وكلهما يبكي.

حكي غريب لاخيه عن ما كان يصله في الخطابات التي كان يكتبها بدران علي لسان امه واسرار , وحكي اخيه له ان بدران كان يقرأ عليهم الخطابات بالخطأ ايضا كان يخبرهم ان غريب قتل شخص في الخليج وحكم عليه بالمؤبد , ليكتشفا ان بدران كان يخدعهم وفاجأه اخوه بأن بدران تزوج من اسرار بعد ان طلقتها بتوكيل من امك !!! , ثار غريب وسال علي بدران اين هو لابد ان اقتله الليله لأشفي غليلي , اخبره اخيه انه مات قبل 5 سنوات عضته كلبه في يده وبانت عليه اعراض السعار واغلقوا عليه في حجرة لمده 40 يوم كانوا يقدموا له الاكل والشراب من تحت باب الحجرة حتي مات . وحسابه عند ربه .

سأل غريب عن امه , اخبره اخيه بأنها طريحه الفراش منذ 88 سنوات لا تتحرك , ولكنها منذ الصباح علي غير طبيعتها وكأنها تريد ان تخبرنا بشئ ما , مؤكد بانها شعرت بموعد عودتك , دخل غريب علي امه غرفتها وارتمي في حضنها وبكي ,شاركته الدموع من دون صوت . لكنها حركت يدها علي غير عاده وجذبت عمامته علي وجهها … واشارت لهم بانها تريد الاحتفاظ بها .
اسرار … علمت اسرار بعوده الغريب أتت تهرول الي بيت اهله .كما تجمع الأهل والجيران في بيتهم سلمت عليه وقبلت يده علي استحياء بللت بدمعها كفه. كان يتمني ساعتها ان يحتضنها ولكن منعه كبرياء وحياء وتقاليد الرجل الريفي . نظرت في عينه وكأنها تقول «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر» رد عليها بنظر عينه ولسان حاله بلى انا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر استعجبت اسرار كيف خدعهما بدران لكنها كانت تشعر ان شئ ما سيحدث اخبرته انها لم تنجب من بدران وانها ورثت عنه منزل وقطعه ارض , واخبرته ايضا انها هي وامه اشتريا له قطعه ارض بأسمه بالمبلغ الذي ارسله لهما قبل 40 عاما وهي الان تساوي ملايين الجنيهات , همست في اذنه تزوجني ياغريب سنعيش معا في بيتي , وقف غريب وامام الحضور معلنا طلبه بالزواج منها , طأطأت اسرار رأسها في خجل بالموافقه وكأنها بنت في عمر الزهور ,ولكنها طلبت منه ان يمهلها اسبوع حتي تتهئ للزفاف ,همس في اذنها الاسبوع يكفي ايضا لتركيب طقم اسنان وصبغ شعري.

زر الذهاب إلى الأعلى