رأي

عبد الله إسماعيل‎ | يكتب : إلى إسلام بحيري : الأدب قبل العِلم

11072004_10206225690060125_2971753561339888978_n

تجد نفسها قد خرجت إلى الدنيا بدون ساق قوية تحملها لتشق بها السماء حتى تصل إلى النور , فيأخذها الحماس و يصيبها الغرور , من الأشجار ذات الأصول و الجذور , فتلتف بخط لولبي لتتسلق على لحائها و ساقها و فروعها حتى إذا شارفت على مجاراتها , ظنت و قد خانها الغباء , أنها شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء , هذه هي النباتات المتسلّقة , وهؤلاء هم البشر المتسلقون , فلا الأرض يملكون بوضع أقدامهم و جذورهم فيها , ولا السماء يعرجون إليها بما يحملون من قوة و إرادة خلقوا و رزقوا بها , بل إعتمدوا على مجهود الآخرين . و أحقر الناس المتسلقين شأنا هم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام , الذين يتسلقون على شجر الأعلام , من الفقهاء و العلماء الذين استظل بهم الأنام على مر الأعوام . فكيف الوصف لدونية من التفوا على التفافهم و التووا بالتوائهم !
.
حينما يخرج علينا باحث و مجدّد فكري في علم من العلوم الشرعية كالحديث أو الفقه , فعليه أن يتسلح بهذا العلم و يسلك مسالكه و يدرج مدارجه , ثم عليه أن يستن بسنّة الأنبياء عليهم و على نبينا الصلاة و السلام , و هي التأدب في التبليغ و التواضع أمام سيرة من سبق في الدعوة , فلم يتبع سيدنا عيسى عليه السلام أخاه موسى بالتشكيك أو القدح , بل بكل أدب و تواضع كما قال الله حاكيا عنه ( و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) ثم يستعرض بعد ذلك المعجزة التي أرسله الله تعالى ليقيمها حجة على الناس ( وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله و أطيعون ) .

ويتبعه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ليختم اللهُ به الرسالة السماوية و يقيم الحجة العقلية الإعجازية على الناس بعد أن استنفذت الرسل من قبل الحجج و المعجزات المادية الملموسة فيقول الله لنبيه محمد ( وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه، ومهيمنا عليه ) و يقول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى “إذا أدّب الرجلُ أمتَه (جاريته) فأحسنَ تأديبَها ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقَها فتزوجَها كان له أجرانِ ، وإذا آمن بعيسى ، ثم آمن بي فله أجران ، والعبدُ إذا اتقى ربَّه وأطاع مواليه فله أجران” أخرجه البخاري في صحيحه . هكذا يكون البلاغ بصدق و أمانة , و أدب و تأدب مع من سبق بالتبليغ , و هكذا صنع الصحابة عليهم الرضوان و التابعون و من تبعهم بإحسان في إيصال العلم الشرعي و نقله بدأب و أدب و إخلاص في السعي و الطلب في عقيدتهم و فقههم و بحثهم و شرحهم و ضبطهم و عقلهم و نقلهم و ترجمتهم و تأريخهم كل ذلك ابتغاء وجه الله و نصرة لكتابه و سنة نبيه المصطفى و سلاحهم في ذلك الورع و الاجتهاد في العبادة , و ضرب أكباد الإبل في الخروج للعلم و طلبه و الاستزادة .
.
أما أن يترك أحدهم مصادر العلوم و منابعها و نباريسها و مناراتها التي يأرز لها طلاب العلم من مشارق الأرض و مغاربها , و يستعوض عنها برسالة ماجستير في جامعة ويلز البريطانية و يخرج علينا بإسم المجدد في الفكر الإسلامي ! فهل شحّت الجامعات الإسلامية في بلاد الإسلام حتى نحصل على شهاداتنا في العلوم الشرعية الإسلامية من جامعات بريطانية و في بلد ترفع الصليب على علَم دولتها كإعلان عن ديانتها الرسمية التي تعتنقها ؟
.
حين يطالب الأزهر بوقف برنامج كثر فيه الهذر على الصحابة و الفقهاء و العلماء و الأئمة المشهود لهم بالورع و العِلم و القدر , فهو حق له , فالأزهر ليس أقل من أي نقابة في البلاد تمنع مزاولة مهنتها لمن لا ينتمي لها . و كيف يُمنع من الخطابة و صعود منابر المساجد المصرية من لا علاقة له بالأزهر و وزارة الأوقاف المصرية , و يُسمح لخريج حقوق القاهرة بالتجديد و التنوير و التصحيح و التفسير في دين المسلمين على منابر الإعلام ؟
.
و ليس في الطلب الذي أصدره الأزهر بوقف برنامج إسلام بحيري هروبا من مقارعة الحجة بالحجة , و ليس عجزا عن الرد على الأفكار و الشكوك المطروحة بالرأي و البيّنة , بل هو أولى خطوات التعامل الصحيح مع مثل هذا الخارج عن السياق , المستهزئ بمن أفنوا أعمارهم في خدمة الدين من صحابة و تابعين و فقهاء و علماء . فأولا يمنعوه عن الوصول إلى عامة الناس و من تثقّفوا بالعلوم المدنية و العلمية و من لا يعرفون من الدين إلا القشور , ثم تأتي مرحلة المناظرة و التفنيد لكل الشبهات التي نقلها إسلام بحيري بلا تجديد عن أعداء الإسلام منذ ألف سنة أو يزيد .
.
هناك فرق شاسع بين من يخوض بسفاهة و يتحمس لهرطقة و يتعصب لزندقة , و بين من يستوفي شروط الإجتهاد و يحصل على إجازة في علوم القرآن و التفسير و علوم الحديث , و يدرس علم مصطلح الحديث الذي اهتم بالنظر في ثبوت الحديث عن رسول الله رواية و دراية و قبولا و ردا و دلالة و حكما و معرفة و تمييزا و تدقيقا و توثيقا للروايات المختلفة من طبقة إلى طبقة و من جيل إلى جيل حتى كان علما سبق كل العلوم المهتمة برجال إسناد رويات الأنبياء , هذا العلم الذي استخف به بحيري و سفهه و وصفه بالعلم التافه ! ألا يستدعي منا غضبة ؟ و هل يصدر الجرح و التعديل للإمام الحافظ المحدّث الحجة محمد بن إسماعيل البخاري , ممن لا يعرف كيف يقرأ القرآن ؟ و هل نتجاوز عن إسلام بحيري في سوء أدبه مع الله حين قال ” لو ربنا مش حابب البنات ممكن يوقف خط الانتاج ! و ربنا مكنش يتخيل ان في ناس هتيجي تعمل اللى بتعمله ده !” ؟ و هل نتساهل مع من يسيء للأئمة الأربعة و يصف نتاجهم العلمي بالسفالة بل و يذكر اسم أحدهم مجرداً و يصغّر منه بقوله “حمادة” و هو الإمام أحمد بن حنبل ؟ وغير ذلك الكثير مما يتاح استبيانه بالصوت و الصورة و سماعه من إسلام بحيري نفسه لا استماعا عنه !
.
نحن لا ندّعي العِصمة لغير صاحبها النبي المعصوم صلى الله عليه و سلم , فكل من سواه من الصحابة و التابعين و الفقهاء و الأئمة و المجددين يؤخذ منهم و يُرد , و قد وردت في كتبهم بعض الأخطاء و رد عليها العلماء , بمنهجية علمية من القرآن و السنة , و ليس بتجاوز و سب و انعدام أدب . ألا و أن العصمة ليست لبشر دون الأنبياء ؛ فإن لكل عالم زلة , فهل من التجديد في الدين إثارة الشكوك و جمع زلات الأئمة و العلماء و الفقهاء و عرضها على الناس على أنها الدليل لإسقاط كل التراث الإسلامي أو حتى بعضه؟ .

مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن الشرقية توداي

زر الذهاب إلى الأعلى