أعمدة

عمرو حمزاوي | يكتب : غياب الموضوعية في القضية الفلسطينية

 

عمرو-حمزاوي - Copy
وكما سجلت فى هذه المساحة منذ عام/ومثلما أشرت هنا مرات ومرات/وقد أكدت كثيرا وأعيد التأكيد/شددت مرارا/ ولقد كنت طوال هذه الفترة الماضية واثقا؛ هذه بعض النماذج القليلة لصياغات لغوية تنتشر اليوم بكثافة فى الكتابات الصحفية والمداخلات الإعلامية فى مصر، وتستخدم فى مقاربة صنوف متنوعة من القضايا المطروحة على الرأى العام، ويتبعها مباشرة توظيف «أدوات الجزم» إن لتسجيل سبق الكاتب أو لإسناد ادعاء شاغل المنصب العام باحتكار الصواب الخالص أو للتذكير بمواقف المفكر الماضية. وفى الأحوال جميعا يشوه النقاش بشأن القضايا محل النظر قبل أن يبدأ، وتختزل المعلومات والحقائق بفعل ممارسات أشبه «بصراعات الديكة» ومساجلات لا مضمون لها غير الاستعلاء والنكاية والاتهامات المتبادلة ومرض الأنا المتضخمة، ويتم مسخ الحق فى المعرفة وفى التفكير الموضوعى وفى التعبير الحر عن الرأى وفى قبول الرأى الآخر والإفادة منه دون مكابرة.

يتحرك الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية وفى القدس ضد سلطة الاحتلال الإسرائيلى التى أمعنت فى اغتصاب الأرض بإجرام استيطانى، وفى انتهاك كرامة الناس وحقوقهم وحرياتهم بعنف رسمى وغير رسمى ممنهج، وفى تفريغ مسارات التفاوض السلمى باتجاه حل الدولتين من المعنى والمضمون، وفى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية فى غزة وفى مواقع فلسطينية أخرى عبر آلة قتل يعجز عن محاسبتها الجميع. يتحرك الشعب الفلسطينى متجاوزا الخطوط الحمراء، التى وضعتها حكومة الرئيس محمود عباس، ومدركا أن «مرحلة أوسلو» قد انتهت وأن الإخفاق فى إقرار حق تقرير المصير وانتزاع الدولة المستقلة هو عنوان حسابها الختامى العريض، ومتجنبا أيضا لإضاعة طاقاته الجماعية عبر التورط فى شقاق الفصائل والقوى السياسية الدائم واتهاماتها المتبادلة التى لا تنتهى. يواجه الأشقاء فى فلسطين آلة القتل الإسرائيلية، ويعيدون بأجسادهم وبأصواتهم الاعتبار لقضيتهم العادلة التى أهدرها الصراع الداخلى (فتح فى مواجهة حماس)، وتنصلت من استحقاقاتها الحكومات العربية وانصرفت عنها الجماعة الدولية خلال السنوات الأخيرة، ويكتشفون من جديد هويتها النضالية وهويتهم هم كطالبى حق وعدل.
يتحرك الشعب الفلسطينى ليحيى الأمل فى تقرير المصير وكسر قيود «مرحلة أوسلو»، وأصحاب الكتابات الصحفية والمداخلات الإعلامية فى مصر مهمومون بصراعات الديكة. بين «وقد سجلت فى هذه المساحة منذ عام أن الانتفاضة الثالثة قادمة لا محالة»، و«مثلما أشرت هنا مرات ومرات إلى عجز القيادة الفلسطينية حول محمود عباس وفشلها فى مواجهة إسرائيل»، و«أكدت كثيرا وأعيد التأكيد على أن انتفاضة ثالثة غير ممكنة وغير مجدية فى الضفة الغربية وأن الأفضل للفلسطينيين هو العودة إلى مائدة المفاوضات»، و«شددت مرارا على أن الصامتين عربيا على عنف وجرائم المستوطنين يتواطؤون مع الاحتلال الإسرائيلى ويخونون القضية الفلسطينية»، و«لقد كنت واثقا طوال هذه الفترة الماضية أن وهم السلام الذى بدأته اتفاقيات كامب ديفيد وعمدته اتفاقية أوسلو لن يذهب بنا بعيدا ولن يمنح الشعب الفلسطينى سوى إدارة أمنية أولويتها خدمة المحتل»، وغير ذلك الكثير من صياغات السبق وادعاء احتكار الصواب الكامل والتذكير بمواقف الماضى التى تهيمن على مقاربة التطورات الراهنة فى فلسطين.
●●●
يصدم تغافل أصحاب الكتابات الصحفية والمداخلات الإعلامية عن البحث فى الحقائق المحيطة بانتفاض الضفة الغربية والقدس ضد سلطة الاحتلال، وعن الاضطلاع على المعلومات المتعلقة بالدعم الواسع الذى يقدمه الفلسطينيون من داخل أراضى 1948، وعن الإلمام بتفاصيل تغول الإجرام الاستيطانى خلال السنوات الماضية وتصاعد وتائر عنف المستوطنين والانتهاكات الممنهجة لحقوق أهل الضفة والقدس.
يصدم الامتناع عن التفكير بموضوعية فى أسباب سقوط «رهان أوسلو» الذى مثل فى الجوهر عرض للشعب الفلسطينى بمقايضة حق تقرير المصير وحق العودة والحق فى الدولة المستقلة برخاء اقتصادى واجتماعى فى الضفة الغربية والقدس وتجاهل لغزة، وكذلك فى العوامل الواقعية التى تجعل من استمرار تحرك الفلسطينيين ضد الاحتلال أمرا مرجح الحدوث.
يصدم الامتناع عن تجنب السقوط فى فخ صراعات الفصائل الفلسطينية وكيل الاتهامات إن للرئيس محمود عباس، الذى ينبغى أن يحسب له إعلانه عن نهاية التزام السلطة الفلسطينية» أو لمعارضيه من مختلف الأطياف الإيديولوجية والسياسية الذين يتعين أن يحسب لهم إصرارهم عدم صمتهم على الإجرام الاستيطانى ومطالبتهم بالذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية بملف جرائم وانتهاكات سلطة الاحتلال الإسرائيلى وابتعاد الكثير منهم عن الدعوة إلى العنف أو عسكرة المواجهة مع إسرائيل.
●●●
يصدم الامتناع عن القراءة الهادئة للواقع الفلسطينى الراهن، عن تمكين الراغبين فى إعادة النظر أو إعادة تقييم مواقفهم السابقة بشأن أوسلو من التفكير بحرية ومن التعبير بحرية عن الرأى، عن ترك صراعات الديكة وأمراض الأنا المتضخمة ونرجسية الصوت المرتفع جانبا والالتفات إلى ما يمكن لنا أن نقدمه للشعب الفلسطينى اليوم من تضامن يتطهر من المن بمواقف الماضى ومن الاستعلاء بمحطات التاريخ، التى كانت ويلتزم الجدية والتواضع.
وما يقال فى شأن مقاربة التطورات الراهنة فى فلسطين ينطبق أيضا على معظم القضايا الداخلية والإقليمية والدولية المطروحة اليوم على الرأى العام المصرى. والحصيلة هى صخب فاسد يغيب المعلومة والحقيقة ويهمش الحرية وقبول الاختلاف واحترام الرأى الآخر، ونقاشات عامة بلا معنى أو مضمون.

 

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى