أعمدة

عمرو حمزاوي | يكتب :فى أن المسطرة الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية واحدة!

عمرو-حمزاوي

يحسبه البعض تناقضا من كثرة ما ران على وعينا الجمعى من تزييف وتغييب للحقائق وادعاءات بطولة متهافتة وتوظيف لمعايير مزدوجة وإسقاط لقيمة العقل، أدرك ذلك جيدا. غير أنه محاولة لا أزعم أبدا اكتمالها لتطبيق مسطرة أخلاقية وإنسانية ومجتمعية واحدة على قضايا تتباين وتضاد سياقاتها وأطرافها، إلا أنها فى الجوهر لها خيط ناظم يجمعها.

إذا كنا ندين الإجرام الإسرائيلى إزاء الشعب الفلسطينى احتلالا وقتلا وتهجيرا واستيطانا وحصارا وانتهاكا للحق الجماعى فى تقرير المصير ولكرامة وحقوق وحريات الناس، وإذا كنا نطالب شعوب العالم بالامتناع عن إنكار جرائم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجرائم المستوطنين والتوقف عن المتابعة غير المبالية للاعتداءات وممارسات العنف المتكررة التى ترتكبها آلة القتل المسماة «جيش الدفاع الوطنى» ولقوائم الضحايا من الأطفال والنساء والعجائز والرجال المستمرة فى الاستطالة؛ فإننا لا نملك حق تنحية قيم العدل والحق والحرية والتسامح جانبا أو حق التنصل من المسئولية الأخلاقية والإنسانية لكى نتورط فى إنكار المحرقة التاريخية، جريمة الإبادة البشعة التى نفذها النازى ضد ملايين اليهود. ولا يعنى الاعتراف بالمحرقة قبول وضعية «الضحية الأبدية» التى توظفها إسرائيل بكفاءة رمزية وخطابية بالغة لإلهاء الرأى العام العالمى عن إجرامها بحق الشعب الفلسطينى وللتشكيك المتهافت فى عدالة القضية الفلسطينية، وهى لا تقبل التشكيك بكونها قضية شعب اغتصبت أرضه وهجر وفرضت عليه مصائر القتل على الهوية والتهجير والنزوح واللجوء وما لبث بعد عقود طويلة يعانى من قسوتها ومن جرائم الاحتلال والاستيطان والحصار.

إذا كنا ندين صنوف العقاب الجماعى التى أنزلتها وتنزلها إسرائيل بالشعب الفلسطينى، ونخاطب شعوب العالم لتتضامن معنا كأصحاب حقوق مهدرة ولتحتفظ فى ذاكرتها الجمعية بمكان خاص للتاريخ العدوانى لإسرائيل وللنضال الفلسطينى والمقاومة التى لم تخفت جذوتها أبدا، فإننا لا نملك حق تغييب جريمة العقاب الجماعى التى أنزلتها فى أواسط القرن العشرين بعض الحكومات العربية بمواطنيها من اليهود المصريين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والتى تمثلت فى تهجيرهم وحرمانهم من الحياة فى الأوطان التى لم يعرفوا غيرها وتنميط صورتهم الذهنية كأعداء وخونة ومتآمرين تنزع عنهم كل قيمة أخلاقية وإنسانية وتلغى هويتهم الوطنية ويعصف بتواريخ التسامح والتعايش الطويلة بينهم وبين المجموعات السكانية الأخرى. ولا يتناقض الاعتراف بالظلم الذى ألحقته بعض الحكومات العربية باليهود العرب مع كشف وتوثيق وإدانة الظلم المستمر الذى تلحقه إسرائيل بالشعب الفلسطينى، واعتداءاتها الممنهجة على الجوار العربى لفلسطين، ولا يتناقض استعادة تواريخ التسامح والتعايش التى اتسمت بها بعض المجتمعات العربية وصنعت هويتها الحضارية مع رفض التسامح مع جرائم إسرائيل والدعوة إلى مقاطعتها حتى ينتزع الحق الفلسطينى ويحاسب قتلة الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين من السياسيين والعسكريين والمستوطنين وينتهى الاستثناء الإسرائيلى من مبادئ وقواعد القانون الدولى.

إذا كنا ندين الاعتداءات المتكررة للمستوطنين المجرمين، وهما جميعا كذلك وبغض النظر عن مدى تورطهم فى ممارسة العنف اليومى ضد الفلسطينيين لأن فعل الاستيطان يمثل فى ذاته جريمة وعنفا، فإننا لا نملك ترف الصمت على انجرار بعض الفلسطينيين إلى العنف المضاد الذى يفسد سلمية الحراك المقاوم الراهن فى كل أراضى فلسطين التاريخية ويشوه المشهد العظيم لشعب يناضل من أجل حقه فى تقرير المصير والكرامة والحرية ويواجه فى سبيل قضيته العادلة آلات قتل حكومية وغير حكومية لا تتورع عن القتل ولا تردعها رهبة الموت عن مواصلة جرائمها. خطأ فادح أن تنجر إلى العنف مقاومة الشعب الفلسطينى التى أدعمها وأسعى للانتصار إليها بأدوات الكاتب المحدودة، وخطأ فادح أن نساند كمصريين أو كعرب أعمال العنف المضاد التى يرتكبها بعض الفلسطينيين. فعظمة المقاومة الفلسطينية هى فى سلميتها التى جسدتها خالصة الانتفاضة الأولى فى ثمانينيات القرن العشرين، وترتبط فاعليتها أيضا بسلميتها التى دوما ما أربك التمسك بها حسابات القتلة الإسرائيليين وجدد دماء التضامن العالمى مع الشعب الفلسطينى ــ على سبيل المثال، يرتبط التطور المؤثر للحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل – بى دى اس – بالانتفاضات المتكررة ضد الاحتلال والاستيطان والتهجير والحصار.

فى جميع هذه القضايا والسياقات وإزاء جميع هذه الأطراف تظل المسطرة الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية واجبة التطبيق واحدة، مسطرة العدل والحق والحرية والتسامح.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى