محمد نور فرحات | يكتب : الشعور بالظلم!!!

طُبع هذا الكتاب لأول مرة عن دار نشر جامعة نيويورك سنة 1949، ثم توالت طبعاته عشرات المرات وأصبح فى بؤرة اهتمام المشتغلين بفلسفة القانون وبالعلوم السياسية كمرجع من أساسيات المراجع لفهم معنى العدالة.

أحد أفكاره المحورية أنه لا جدوى من تعريف العدل. وأن العدل لا يتحقق فى المجتمع إلا بغياب الإحساس بالظلم. وأن الإحساس بعدم العدل إذا نما وتضخم فى المجتمع، فغالبا ما يؤدى إما إلى الفوضى أو إلى الثورة، التى تعيد إلى الناس التوازن النفسى بإلإحساس بالعدل، وأن وظيفة الدولة ليست مجرد التحقيق الشكلى للعدل، بل إشاعة الإحساس بالعدل، وتقليل الإحساس بالظلم إلى أقصى حد ممكن. وتلك هى مهمة المؤسسات الرشيدة فى الدولة الرشيدة.

لا يكفى فى المجتمع- حتى يتحقق العدل- أن يكون به حاكم يتمنى العدل فى قرارة نفسه، فليس بالنوايا الطيبة تُدار أمور المجتمع، بل لابد أن تكون بها مؤسسات فاعلة كفؤة نزيهة قادرة على ذلك.

طباع الشعوب تغيرت على مسار عشرات القرون من التاريخ. كانت الشعوب تستطيع أن تصبر على الظلم قرونا حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. وهناك شعوب كثيرة خبرت الظلم كظاهرة طبيعية مثلها مثل الشمس والقمر والأمطار والبحار والرياح. الأمر اليوم اختلف بفعل زوال الحجب بين الشعوب. أصبح صبر الشعوب على الظلم قصير الأمد، وأصبحت قدرتها على القصاص لنفسها أكثر فاعلية. وإن فشلت الشعوب مرة فى تحقيق العدل بعد إطاحتها بالظالمين، وإن فشلت رغم ثورتها فى إعادة موازين القوى إلى وضعها العادل، فهى قادرة على الثورة مرة ثانية وثالثة، رغم ما تتسبب فيه الثورة من إنهاك للشعوب، لأن الثورة ليست رغبة ذاتية مجردة لشعب وفقا لمزاجه، بل هى نتيجة لمقدمات ظالمة.

العدل لا يتحقق بالأمنيات والخطب الرحيمة منمقة العبارات، ولكن يتحقق بمؤسسات عادلة تحكمها تقاليد العدالة والكفاءة. والعدل لا يتحقق بالقانون فقط، بل يتحقق بسيادة قيم العدل والنزاهة والشفافية.

القانون ليس مجرد إفصاح سلطة الحكم عن إرادتها المُلزمة كما كان يذهب إلى ذلك فقهاء استبداد الملوك والسلاطين، ولكن القانون العادل فى ثقافة عصرنا هو القانون الذى تُصدره مؤسسات منتخبة فى مجتمع يتنفس بحرية، متجردا عن الهوى والغرض.

هربرت هارت، أشهر فلاسفة القانون فى عصرنا، يقول فى كتابه الأشهر عن «مفهوم القانون»: «إن القانون الذى يصدره السيد المُطاع أو تصنعه أجهزة قمعه هو مظهر فارغ للقانون، لا فعالية له، لأنه يفتقر إلى اقتناع المجتمع به».

القانون العادل لابد أن تتوافر فيه متطلبات الحد الأدنى من استهداف تحقيق التضامن الاجتماعى، وتحقيق الردع لمَن يضرون المجتمع، والحفاظ على مال الشعب، وتوزيع الدخل بطريقة عادلة.

لا يمكن أن تُقنع الشعب بأن يكف عن التهرب الضريبى وهو لا يلقى مقابل ما يدفعه من ضرائب فى صورة خدمات معقولة من تعليم وعلاج وسكن. لا يمكن أن تدعو الشعب إلى أن يصدقك ويتكاتف حولك وهو يعانى الإهانة من مؤسساتك، التى تمارس عليه كل يوم الكذب والخديعة والإذلال. لا يوجد شعب جاهل فى عصرنا، فالحكمة الفطرية والتاريخية هى زاد الشعوب. أثبت كثير من الدراسات أن الأميين الذين لم يتلقوا تعليما رسميا أكثر ذكاء ممن تشوهت عقولهم بالتعليم الرسمى. قد تنجح المؤسسات الإعلامية والتعليمية فى تشويه مدركات الشعب، ولكنها لن تؤثر على إدراكها الخطأ والصواب والخطر. «التجربة والخبرة والتاريخ أصدق إنباء من الكتب».

لا يكفى- لكى يكون لديك قضاء عادل- أن يكون قضاؤك يفعل ما تريده أنت. طوال التاريخ المصرى والإسلامى كان هناك قضاءان:

قضاء لإنقاذ الحاكم وحماية سياسته، وقضاء للفصل فى منازعات الناس التى لا تعنى الحاكم فى كثير أو قليل.

القضاء الأول شديد البأس سريع الإنجاز، والثانى قد يصبح- بفعل التربية القضائية التى تخلط بين الوظيفة وشخص صاحبها- قضاء متعجرفا يشعر صاحبه بالتميز، ويسير سير السلحفاة، وقد تضيع فيه الحقوق.

هل يتوافر مع ذلك الإحساس بالعدل أم أن البديل من ذلك هو استشراء صور القضاء الخاص، حتى الدولة الآن تبارك القضاء الخاص ببدعة المجالس العرفية التى تقضى على حساب القانون. هل يمكن أن يكون لديك عدل فى جهاز يسبح قوامه الإدارى فوق بحيرة من الفساد والرشاوى؟!

هل يمكن أن يكون لديك عدل فى قضاء مُثقَل بالقضايا، يقوم عليه قضاة كان يتباهى وزيرهم السابق بأنهم ذوو حسب ونسب وشموخ، ولا تهم بعد ذلك معايير الكفاءة والنزاهة والتكافؤ، هل يمكن أن يكون لديك قضاء جنائى عادل يعتمد فى الغالب على تحريات الشرطة التى لا يصدقها أحد فى مصر أو فى غير مصر، وقوامها كتلة الأمناء الفاسدة؟!

هل تتوقع من العاملين بالدولة هدوءا نفسيا ورضاء، فى وقت تعطيهم فيه فتات الأجر، وتطلب منهم أن يتظلموا لظالميهم قبل أن يتقاضوا أمام القضاء، طلبا لحقهم، فإن تظلموا وتقاضوا لا يحصلون على حقوقهم إلا عندما يقترب منهم ملك الموت؟!

هل يمكن أن يقوم العدل فى دولة يعتمد جهازها الإدارى على الرشاوى والمجاملات على حساب القانون الذى يستهزئ به الجميع. تقولون إن ميزانية الدولة أكثرها مخصص للأجور والدعم، ولكن لماذا لا تدعم ميزانية الدولة بجهاز ضريبى كفء يُحصِّل حقوقها من الأثرياء بالعدل والقسطاس؟! أكثر مَن يمول حصيلة الضرائب هم الموظفون والمستهلكون الفقراء!

هل تطمع فى إقامة العدل بمفردك؟ تجربة التاريخ تقول إنك لن تستطيع. انهار مشروعا محمد على وعبدالناصر بعد وفاتهما مباشرة، لأنهما كانا يعملان بمنطق الحاكم المنفرد بقراره. هل تأمل فى حماية الفساد بمفردك؟ أيضا لن تستطيع، لأن الفاسدين من خصائصهم الجينية أنهم خلايا تأكل بعضها البعض.

إقامة المجتمع العادل تكون بالمؤسسات الرشيدة العادلة. المؤسسات التى تكذب عليك كل يوم من أجل أن تحافظ على مميزاتها وحماية ما تمارسه من ظلم ليست رشيدة ولا عادلة، وتسىء إلى علاقتك بشعبك، وتدمر علاقاتك الدولية.

المؤسسات النيابية التى تصنعها الأجهزة لن تحمى الحاكم، بل ستقتنص لنفسها ما تستطيع من فرص وامتيازات، ثم تلوذ بالفرار عند أول ناقوس خطر. الشرعية ليست أوامر من أعلى، بل رضاء وقبول من المجتمع. والمجتمعات تعرف الغش والخديعة ولا تقبلهما، وتعرف الصدق والصادقين وتضعهم فوق رؤوسها. ولدينا فى تجربة الاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى والحزب الوطنى أسوة بغيضة. ولدينا فى تجربة مهاتير محمد ودى سيلفيا أسوة حسنة.

بناء الأوطان واستقرارها لا يكون بصناعة تشريعات تكمم أفواه الناس وتسلبهم القدرة على التنفس بحرية، تشريعات يباركها برلمان صُنع خصيصا لمباركة ما سبق من تشريعات. بناء الأوطان يكون بأن يشيع إحساس بين أبناء الوطن بأنهم يملكونه حقا، وأن قانونه يعبر عنهم حقا، وأن قضاءه يُنصفهم حقا، وأن جهازه الإدارى يلبى حاجاتهم المشروعة حقا، وأن الجميع يسهم فى التكاليف العامة بعدالة.

بناء الأوطان لا يكون بالتوسع فى إنشاء السجون، بل بالتوسع فى إنشاء معاهد العلم الحقيقى. ولا يكون بتشجيع الإعلام الكاذب، بل تشجيع الإعلام الحر الصادق. ولن تستطيع أن تبنى الديمقراطية ببرلمان يأتى به الأمن وأحزاب الأمن ووزراء يكذبون لكى يبقوا فى مقاعدهم. ولن تستطيع أن تبنى الديمقراطية دون أحزاب حقيقية تُعلم الناس كيف تمارس السياسة وتشاركك وتَصْدُقك القول، فصَدِيقُك مَن صَدَقك. والنقد ليس مجرد رغبة فى الهدم أو مجرد سفسطة نظرية فارغة، بل هو تعبير عن رغبة حقيقية فى إنقاذ الوطن.

ولن تستطيع أن تُشيع قيم العقل فى مجتمع تتسلط فيه على العقول الخرافة، وترعاها مؤسسات عريقة فى صناعتها، ويُساق فيه مَن يُعملون عقولهم ومَن يمارسون حرياتهم الطبيعية إلى السجون.

وخلاصة المقال فيما يُقال ولا يُقال أن العدل والعقل أساس الملك وكل ملك.

هذا درس التاريخ ولن تجد لسنة الله تبديلا.

المصدر