أعمدة

محمد نور فرحات | يكتب : ذكريات جامعية- الطريق إلى التدهور!!

محمد نور فرحات

هذه الأجيال المتلاحقة التى بنت النهضة المصرية الحديثة ممن حصرتهم ولم تحصرهم ذاكرتى أخذت فى التلاشى بفعل تدهور الاستقلال الأكاديمى للجامعات

كنا طلابا بالفرقة الثانية بحقوق القاهرة عام 1960 نرهف السمع إلى مُحاضرنا المهيب، الدكتور محمود مصطفى، أستاذ الجنائى، عميد الكلية. لا صوت يُسمع إلا صوت المُحاضر. انفرج بقوة الباب الأمامى لقاعة المحاضرات، ودخل منه شخصان: أحدهما عرفناه، وهو الصاغ كمال الدين حسين، وزير التعليم، وشخص أجنبى آخر لا نعرفه. قال الأستاذ المُحاضر العميد: أرحب بالسيد الوزير وضيفه السيد محيى الدينوف، وزير التعليم السوفيتى، وأدعوهما لمتابعة المحاضرة. جلس الضيفان الكبيران فى مقاعد الطلاب واستمر الأستاذ فى محاضرته حتى نهايتها بنفس صرامته العلمية. وفى نهاية المحاضرة دعاهما إلى الاجتماع فى مكتبه واحتساء القهوة.

تأملت فيما بعد هذا الموقف. لابد أن الأستاذ العميد كان يعلم مسبقا بزيارة الضيفين الكبيرين لكليته وموعدها، فمثل هذه الزيارات لا تحدث فجأة. ولابد أنه تدبر الأمر وانتهى إلى أن واجبه العلمى كأستاذ جامعى أن يلقى محاضرته فى موعدها. ولابد أنه انتهى إلى نتيجة مؤداها أنه مادام الوزيران قد حضرا لزيارته كعميد فى وقت المحاضرة فليجلسا مجلس الطلاب، ثم بعد ذلك يرحب بهما كما يجب الترحيب بالوزراء.

هذه النماذج من الأساتذة الذين يوقرون مهنتهم العلمية كانت شائعة كتراث ثقافى انحدر من تقاليد الجامعة الأهلية. نجدها بوضوح فى شخص مصطفى سويف، رائد علم النفس الاجتماعى، الذى كان يعتبر مهمته الرئيسية فى الحياة تقدم العلم بتقاليده الصارمة وإعداد جيل من الباحثين يحتذون حذوه. كان يقود قطار حياته بالتزام لا يحيد عن الطريق نحو الهدف. ونجح فى المهمتين على المستويين المحلى والعالمى. ولعب دوره العلمى والوطنى دون أن يتزحزح قيد أنملة عن القيم التى يؤمن بها. ورحل عن دنيانا منذ أسابيع، مُخلفا وراءه ثروة من البحوث بمختلف اللغات، ومذكرات كتبها فى جزءين، نشرها المجلس الأعلى للثقافة، وتُعتبر شهادة أمينة على عصرنا بكل ما لحقه من تغيرات.

ونجد هذا النموذج الصارم والجاد والوطنى عند جمال حمدان، صاحب شخصية مصر، الذى عاش راهبا حقيقيا فقيرا فى محراب العلم، نذر حياته لتسخير علمه فى حب وطنه، وأخرج لنا زادا سنتعلم منه أبد الدهر. ومات ميتة فاجعة تحيط بها علامات الاستفهام. ونجده عند حامد عمار، «أبوالتربويين المعاصرين».

ونجده فى الرياضيات عند عطية عاشور وعبدالعظيم أنيس وتلاميذهما، وفى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية عند سيد عويس ومصطفى الخشاب وأحمد أبوزيد وتلاميذهم، وفى الفلسفة عند زكى نجيب محمود وتوفيق الطويل وعبدالرحمن بدوى وتلاميذهم، وفى التاريخ عند محمد شفيق غربال وأحمد عبدالرحيم مصطفى ومحمد أنيس وتلاميذهم، وفى الأدب لدى طه حسين وأحمد أمين وسهير القلماوى وتلاميذهم.. وهلمّ جرا.

هذه الأجيال المتلاحقة التى بنت النهضة المصرية الحديثة ممن حصرتهم ولم تحصرهم ذاكرتى أخذت فى التلاشى بفعل تدهور الاستقلال الأكاديمى للجامعات كلما توغلت تقاليد الدولة الأمنية فى مؤسساتها. ونتج عن ذلك تطلع أساتذة الجامعة إلى المناصب العليا خارج الجامعة أكثر من تطلعهم إلى مهمتهم العلمية المقدسة.

فى الدول الديمقراطية التى تؤمن بالتعددية الحزبية يكون الانخراط فى الأحزاب الطريق الوحيد لتصدر العمل السياسى العام. فى الأنظمة الشمولية، التى ترى أن الأحزاب الحرة ومؤسسات المجتمع رجس شيطانى، تصبح مؤسسات المجتمع، بما فيها الجامعة والقضاء والصحافة، تابعة لإرادة المؤسسة العسكرية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

كان يُنظر إلى استقلال الجامعة أو القضاء كنوع من اللغو. الاستقالة التى تقدم بها رئيس الجامعة، أحمد لطفى السيد، نُظر إليها كسلوك أرعن غير مفهوم. الموظف العام يُقال ولا يستقيل. عندما سأل صحفى أجنبى عبدالناصر عن رأيه فى استقلال القضاء أجاب بأنه لا يفهم كيف تكون مؤسسة ما داخل الدولة مستقلة عنها. الكل فى واحد، والواحد هو الكل.

الثقافة العسكرية بانضباطها الصارم لا تعرف سوى الطاعة. ولكن الثقافة العسكرية ضرورية فقط داخل مؤسساتها. يجب أن نعى أنه لا ديمقراطية فى الجيش ولا عسكرة للمجتمع. وهناك مؤسسات لا تعمل بكفاءة إلا بالحرية. وهناك مؤسسات لا تعمل بكفاءة إلا بالانضباط. الاستقلال والحرية فى المؤسسات العلمية والقضائية والإعلامية ليسا نوعا من اللغو، ولكنهما شرطان للتقدم. خلط الأدوار يؤدى إلى تدمير المؤسسات. وهذا ما حدث فى الجامعة المصرية بالتدريج بدءاً من الستينيات.

وحلت محل النماذج المضيئة التى نهضت بالجامعة نماذج أخرى تسببت فى تدهورها، وحولتها إلى دكاكين للتجارة والتطلعات، خالية من البضاعة العلمية. أصبح تطلع الأساتذة إلى مناصب الدولة السياسية أهم من بناء قدراتهم العلمية وخلق مدارس علمية متميزة.

كان رئيس إحدى الجامعات وعميد إحدى كلياتها يُظهران حفاوة بالغة بحرم الرئيس، المعيدة بالكلية. كافأتهما دولة السادات بأن جاءت بالأول رئيسا لمجلس الشعب والثانى رئيسا لمجلس الشورى. أذكر أنه عندما تقابلت مع لويس عوض فى جامعة كاليفورنيا- بروكلى. عاتبته على ما كان يُشاع عن مساعدته حرم الرئيس فى الدكتوراه. قهقه بصوت عال قائلا: ومَن يستطيع مقاومة جمال أميرات القصور؟! ثم أردف قائلا: ولكن شرطى معتقل الواحات ركلنى عندما سقطت منى (قفة) أحجار الجبل التى أحملها كما سقطت من سيزيف.

أصبح أمل الأساتذة الاقتراب من السلطة طمعا أو رهبا. أحدهم قال لى متنهدا وهو يجاورنى فى الطائرة إنه يشتهى تذوقها قبل وفاته. ظننت أنه يتحدث عن نوع من الطعام الشهى أو حتى عن غانية لعوب. سألته: ماذا تريد أن تتذوق؟ قال: الوزارة. ومات بعدها بشهور محسورا.

قرر السادات فى نهاية حكمه أن يستقل قطارا مكشوفا إلى المنصورة يمر عبر محافظات شرق الدلتا. ارتأى رئيس جامعتنا، الذى كان أمينا للاتحاد الاشتراكى، أن يحشد أساتذتها على رصيف القطار لتحية الرئيس عند مروره. مَن رفض الذهاب وُضع فى القائمة السوداء.

عندما تولى أستاذ للقانون رئاسة مجلس الشعب وسلك بما يخالف تعاليمه لطلابه، عاتبه خلصاؤه، فأجاب ببيت شعر: (مادمتَ فى أرض النفاق/ فمل بساق واعدل ساق/ وقل كلاما بغير معنى/ واحلف على الإفك بالطلاق..).

فى حكم السادات كان رؤساء الجامعات أمناء للاتحاد الاشتراكى. كنت أدخل مكتب رئيس جامعتى فى الصباح الباكر لأعرض أوراقى كمستشار قانونى، فأجد ضيفه الافتتاحى فى يومه مفتش الأمن. فى الزمن الغابر استقال لطفى السيد احتجاجا على إقالة طه حسين. اليوم يقوم الأمن باستدعاء المرشحين للعمادة لاختبار ولائهم، ويذهبون صاغرين. الولاء فى التقاليد الأمنية مقدم على كل شىء. ولا يهم أن يكون الموالون فاسدين أو غير أكفاء.

كانت هناك مواد تُدرس بكل كليات الجامعة تسمى «المواد القومية» يُعهد بها لذوى الحظوة من الأساتذة يجمعون من عائد كتبها الأموال الطائلة: الاشتراكية العربية وثورة 23 يوليو والمجتمع العربى. كَتب فى الاشتراكية وعن الثورة أساتذة لا يؤمنون بالاشتراكية أو الثورة. ذكَّرونى بأساتذة كليات الحقوق فى الدول الاشتراكية، الذين كانوا يفتتحون كتبهم بمقولات ماركس وإنجلز ولينين. بعد انهيار الاشتراكية حذفوا من كتبهم كلمات الإشادة بالرواد، ووضعوا مكانها كلمات الهجاء والنقد.

لرجال القانون سيكولوجية مركبة تجاه مؤسسة الدولة. من المفترض أن شاغلهم العلمى تكريس خضوع الدولة للقانون. ولكن يتملك بعضهم شبق مرضى نحو معانقة الدولة. منهم مَن ترفع وقبض على الحرية والعدل كالجمر وفاء لمهنته وضميره وكرامته (وحيد رأفت وحامد سلطان وعبدالمنعم الشرقاوى ومحمود مصطفى نموذجا). ومنهم مَن طوع القانون لخدمة الدولة لمجرد الاقتراب. ومنهم مَن اقترب، ثم لاذ بالفرار. السنهورى ومأساته نموذجا. كان مستشارا لضباط يوليو. عندما انحاز لمدنية الحكم سنة 1954 جُندت له مظاهرات من (المواطنين الشرفاء) هتفت ضد الديمقراطية، واعتدت عليه بالضرب. إسماعيل غانم وحلمى مراد استقالا من الوزارة إيثارا للكرامة. المصير المحتوم كان ينتظر مَن يُصر على المقاومة. المستشار كامل لطف الله أُلقى به من حالق، ثم قيل إنه انتحر، لأنه رفض أن ينصاع.

كان لكل حكام مصر- وآخرهم مرسى- فقهاؤهم الذين أوردوهم موارد التهلكة. ومازال فقه التبرير للدولة والتمرغ فى ترابها مستمرا.

لا تناقض بين العدل الاجتماعى والحرية. ولكن لأن مفهوم العدل الاجتماعى تبناه أهل الأمر والنهى، فلا هم حافظوا عليه ولا هم صانوا حرية شعوبهم. ولم يبق لنا بعد زوال العدل إلا الطغيان.

وعى الجميع دروس رأس الذئب الطائر. بعض رجال القانون كانوا يبررون الفصل بغير الطريق التأديبى. وهاجم بعضهم استقلال القضاء كمفهوم برجوازى. جامعتنا العريقة أعطت سوزان مبارك الدكتوراه الفخرية. جرى تشجيع الأساتذة على القيام بأعمالهم المهنية خارج الجامعة وعلى الاتجار بالكتاب الجامعى. كما جرى إرضاء القضاة بالامتيازات المادية والانتدابات، مع غض الطرف عن تعيين الأبناء. الوزير عزت سلامة تجرأ على إلزام أساتذة الطب بالانتظام فى المستشفيات، فأُقيل من الوزارة فورا. وسارت الجامعة إلى المنحدر.

الجيش قوامه الأوامر والانضباط. من السفه الحديث عن جيش ديمقراطى. ومن السفه أيضا الحديث عن مجتمع يعمل بالأوامر والتعليمات. مؤسسات العقل والعدل يجب أن تعمل فى حرية واستقلال حتى تبدع وتعدل، وإلا فقدت كفاءتها.

هذا درس التاريخ. وإلى حديث آخر مع الذكريات.

 

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى