أعمدة

محمد نور فرحات | يكتب : هل من تناقض بين الأمن والحرية؟

محمد نور فرحات

منذ مطلع الخمسينيات تتردد فى مصر والعالم العربى دعاوى التناقض بين الأمن والحرية. وتبنت النظم الشمولية العربية فكرة التضحية بالحرية إذا تعارضت مع الأمن القومى.

اكتسب الأمر لدى الأنظمة العربية فى العقود الماضية بعدا أيديولوجيا أو دينيا. وتحت دعاوى حماية الثورة أحيانا وإعطاء الأولوية للتنمية على الحق فى الحرية أحيانا أخرى، وحماية العقيدة الدينية من الهرطقة أحيانا ثالثة، جرى وأد الحريات فى أغلب فترات التاريح العربى الحديث.

وكانت النتيجة أنه لم ينعم العرب بلقمة الخبز ولا بالأمن ولا بالحرية. وأصبحوا يستوردون أغلب غذائهم من الخارج .

وتبددت ثروات بلاد النفط إما باستثمارها فى عواصم العالم الرأسمالى، أو بشراء السلاح لغير ما حاجة إلا تنشيطا لاحتكارات صناعة السلاح الغربية، أو ببعثرة الأموال ممن ادعوا الثورية فى مغامرات (ثورية) أو مشاريع غير مدروسة وغير محسوبة.

نذكر أن نظام يوليو أجل الاستحقاق الديمقراطى بدعوى الحفاظ على الثورة من أعدائها، وبدعوى أن العدل الاجتماعى مقدم على الحرية السياسية.

كما نذكر أن نظام السادات تحدث عن الديمقراطية ذات الأنياب، وأصدر قوانين العيب والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى، وقوانين محاكم أمن الدولة والمدعى الاشتراكى، ووضع معارضيه زمرة واحدة فى السجون، وكانت هذه نهاية السادات.

ونذكر أيضا نظام مبارك الذى حكم مصر ثلاثين عاما بقانون الطوارئ، وتحدث عن التدرج فى التطبيق الديمقراطى الذى لم يحدث أبدا. وأطلق يد الأمن لتخريب الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى والجامعات والمؤسسات الإعلامية وغيرها من الداخل.

ثم انهارت الأنظمة التى كانت تدعى الأولوية للأمن على الحرية دون أن تفى بوعودها. وانزاح الطغاة وأفسحوا مكانهم للغزاة. وتشرذمت وحدة الأوطان.

ضبط المصطلحات مهم حتى لا تضيع الحقيقة وسط تهاويم العبارات البليغة. مفهوم الأمن القومى منضبط، ولكن الطغاة يتوسعون فى تفسيره لوأد حرية شعوبهم. إنه درأ المخاطر عن المواطنين وعن الوطن فى الداخل والخارج.

يقوم على الحفاظ على الأمن الداخلى مؤسسات نص عليها الدستور وفى مقدمتها الشرطة كهيئة مدنية نظامية منضبطة بالقانون. ويقوم على الدفاع عن البلاد جيشها الوطنى.

مفهوم الحرية منصوص عليه فى باب الحريات فى الدستور وفى المواثيق الدولية التى صدقت عليها الأجهزة التشريعية. المادة 19 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية تجيز تقييد الحرية لفترة مؤقتة لاعتبارات الأمن القومى. ويؤكد الفقه الدولى أن المقصود بمصطلح الأمن القومى مفهومه فى المجتمع الديمقراطى الحر.

وثمة حقوق وحريات للمواطنين لا يجوز تقييدها حتى فى الظروف الاستثنائية مثل الحق فى سلامة الجسم وحظر التعذيب والحق فى المحاكمة العادلة ومبدأ المساواة أمام القانون.

كشأن كل المجتمعات بعد الثورات، حدث بمصر انفلات أمنى بعد ثورة 25 يناير. الثورة هى تمرد شعبى يطيح بنظام ظالم فاسد غير عادل ليحل محله نظام صالح عادل.

ولكن بعد أن يهدأ المد الثورى ويتم وضع أسس الدولة الجديدة وفى مقدمتها الدستور، من غير المقبول أن تعود مؤسسات الدولة إلى نفس ممارساتها التى أشعلت شرارة الثورة. مقتل خالد سعيد فى مصر على يد الشرطة الغاشمة المنفلتة، مثل مقتل بوعزيزى فى تونس، هو الذى أشعل شرارة الثورة فى مصر وتونس.

يقول أنصار تبرير انتهاك الحريات الآن فى مصر: إن هذا هو السبيل الوحيد حتى لا تصبح مصر مثل سوريا أو ليبيا أو اليمن. هذا منطق مراوغ يتذرع به الجلادون لإقناع ضحاياهم بتحمل آلام السياط. الجيش هو الذى حمى مصر من الانقسام والفوضى. نحييه ونرفع له القبعة. رجاله إخوتنا وأبناؤنا من الفلاحين والعمال انخرطوا فى نسيج وطنى واحد، وهو ليس مثل الجيوش الطائفية أو المذهبية فى المنطقة والتى أدت صراعاتها إلى تفتيت الأوطان. أحاط بجيش مصر شعب يدافع عن كرامته ويصبح كيانا واحدا متماسكا بصلابة مع إحساسه بالخطر. اقرأوا دروس ثورة عرابى وثورة 1919 وثورة 1952 لتعلموا كيف يحافظ المصريون على وحدة وطنهم. مهمة الجيش هى الدفاع عن الوطن ضد ما يحيط به من أخطار فى الخارج والداخل. على هذا نصت دساتير مصر المتعاقبة.

ولا يمكن أن تتحكم فى ممارساتنا السياسية بعد الثورة غريزة الخوف إلا إذا كانت هناك مصالح غير مشروعة لمجموعات يرجى حمايتها. الخوف لا يبنى مستقبلا بل يؤدى لتحويل السلطة إلى تسلط وقهر، وتحويل الحكم إلى تحكم. والخوف والتحرر من القانون يؤديان إلى شخصنة السلطة بأن تتحول من وظيفة فى خدمة المجتمع إلى أهواء ومصالح وحصانات وامتيازات فئوية تستعصى على المحاسبة.

الحفاظ على الأمن ليس ذريعة لانتهاك الدستور. وقد سبق أن كتبت وكتب غيرى فى هذا الموضوع، ليس من المستطاع أن يصبر المجتمع على القوانين غير الدستورية حتى تفصل المحكمة الدستورية فى أمرها. الطريق الذى رسمه القانون شاق وطويل وممتد أمام أحكام المحكمة الدستورية العليا حتى يرفع الأمر إليها وتصدر أحكامها. لو كان لدينا مجلس دستورى مثل فرنسا يتميز بالحسم الناجز للمسائل الدستورية لكان ذلك أفضل.

لا يمكن ان نترك فى بنيتنا القانونية نصوصا تسمح بسلب حرية كل صاحب رأى وفق صياغات مطاطة تسمح بالعقاب أو بالإفلات منه وفقا لهوى السلطة، نصوص تجرم الأوصاف والنوايا لا الأفعال. وهذا نهج أدانته المحكمة الدستورية فى العديد من أحكامها. قانون العقوبات والقوانين الخاصة مليئة بهذا النوع من النصوص: بث الدعايات والإشاعات المغرضة والمساس بالهيئة الاجتماعية وتقليب الطبقات على بعضها، وتقويض أسس الهيئة الاجتماعية، والمساس بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى، والدعوة إلى عدم الانقياد للقوانين وإهانة مؤسسات الدولة، والتحريض على كراهية نظام الحكم، وازدراء الأديان/ عشرات وعشرات غيرها من النصوص القانونية التى لا توجد فى أى نظام قانونى ناضج. قانون الإرهاب يحتوى على شبهات قوية بعدم الدستورية لتجريمه أفعالا لا تدخل فى تعريف الفعل الإرهابى وتصادر الحريات الدستورية. تذكرنى هذه النصوص بمواد فى القوانين العربية لا تهدف إلا إلى قمع الحريات وحماية الأنظمة بذرائع أيديولوجية أو دينية. مثل هذه النصوص وتطبيقاتها هى أكفان تعدها نظم الحكم المستبدة لنفسها حين تحين ساعة الرحيل. ولكن الثمن يكون باهظا يدفعه الشعب قبل حكامه. إن شاء مجلس نوابنا أن يكون وفيا لحريات شعبه واستقرار وطنه، فلينهض بمهمة مراجعة القوانين العقابية لشبهة مخالفتها الدستور وانتهاكها الحقوق والحريات.

لا يمكن بعد الثورة أن نعود لنفس الممارسات التى سببت الثورة وبالمخالفة للدستور. الدساتير والقوانين لن تطبق من تلقاء نفسها بل بواسطة شرطة يحكمها الوفاء للقانون والدستور، وقضاء يحكمه الوفاء للقانون والدستورالحرية والعدل. التربية القضائية يجب أن ترسخ لدى القضاة تقديس الحرية ومبادئ العدالة حتى ولو قامت شبهة تعارض بينها وبين حرفية نص القانون. السلطة والقانون والعدل واجهات متقابلة. جماعة السلطة إذا تحررت من القانون تحولت إلى زمرة أو عصبة GANG ولا أقول عصابة.

قانون الإجراءات الجنائية عندنا كان فيما مضى يضع التحقيق فى يد قاضى التحقيق بكل ضمانات الحياد وحقوق الدفاع وقرينة البراءة. اليوم تتولى التحقيق النيابة العامة فجمعت بين سلطتى الاتهام والتحقيق على تميزهما. أصبح مألوفا أن تعتمد النيابة العامة فى قرارات القبض والتفتيش بل والإحالة للمحاكمة على مجرد تحريات الشرطة. محكمة النقض فى الكثير من أحكامها قضت أن تحريات الشرطة لا تصلح بمفردها دليلا للإدانة.

شئنا أم أبينا: الشرطة الآن فى خصومة مع الثورة. يلقى القبض على عواهنه ويحبس المواطنون آمادا طويلة وفقا لتحريات الشرطة وحدها. تحول الحبس الاحتياطى إلى ما يشبه الاعتقال دون وجود حالة طوارئ معلنة. استيقاف المواطنين غير المبرر حظرته محكمة النقض. ومع ذلك تحول الاستيقاف بل والتفتيش ومداهمة منظمات المجتمع المدنى إلى ممارسة عادية للشرطة.

أدعو إلى العودة إلى نظام قاضى التحقيق وقصر سلطة النيابة على الاتهام. وإلى تفعيل الرقابة القضائية على عمل الشرطة. وإلى تقرير حق المتهم فى التظلم من كل قرارات التحقيق الماسة بحريته. وإلى تقرير حقه فى التعويض عن سلب الحرية إذا ثبتت براءته. وأدعو إلى تفعيل ضوابط الحبس الاحتياطى وجدية تحريات الشرطة وتقرير جزاءات مهنية على مخالفة هذه الضوابط.

تدريب رجال السلطة على مبادئ حقوق الإنسان لا يكفى فى غياب الإرادة السياسية. يجب أن يعلم رجال إنفاذ القانون أن وظيفتهم تطبيق القانون وليس تنفيذ التعليمات إن خالفت القانون.

وأدعو أن تناقش تقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان فى البرلمان وأن تكون الحكومة ملتزمة بتلافى أوجه القصور وإلا تعرضت للمساءلة.

لا أتحدث فى التفاصيل تجنبا لتهمة مخالفة حظر النشر. التوسع فى قرارات حظر النشر غير مرغوب لأنه يمس حريات دستورية كحرية التعبير وحرية الصحافة والحق فى الحصول على المعلومات. لابد من تعديلات تشريعية تضع ضوابط على استخدام سلطة حظر النشر وتكفل لذوى الشأن حق الطعن فيها.

وخلاصة القول أنه لا تعارض بين أمن الوطن وحرية المواطن. وأن تطبيق القانون العادل بكفاءة هو الذى يقيم توازنا بين الأمن والحرية. وأن هذا يحتاج إلى رجال أكفاء قادرين. فالوطن المستقر هو الذى يصون حقوق وحريات مواطنيه ويحقق أمنهم فى نفس الوقت.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى