أعمدة

محمد نور فرحات | يكتب : هل أصبحت السياسة رذيلة؟

محمد نور فرحات

مشهور عن أرسطو قوله إن الإنسان حيوان سياسى. يقصد أنه لا يمكن أن يعيش بمعزل عن تحديد أهداف عيشه في المجتمع ووسائل تحقيقها. و«السياسة» في تعريفها المعجمى: «رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، ودراسة السلطة التي تحدد مَن يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟».

مفهوم «الإدارة»، وهى التخطيط والتنسيق والرقابة على الموارد المادية والبشرية للوصول إلى أفضل النتائج، مفهوم أكثر ضيقا. الإدارة وحدها لا تكفى دون سياسة تسترشد بها.

وتُعنى السياسة بالإجابة عن أسئلة من نوع: إلى مَن ينحاز نظام الحكم: إلى الفقراء أم الأغنياء؟ أم أنه نظام يحاول التنسيق المتوازن بين انحيازاته، وكيف؟ مَن حلفاء النظام في الداخل والخارج؟ وعلى أي معيار تم تحديدهم؟ وما محددات الأمن القومى؟ ما وسائل المجتمع في تحديد خياراته وأولوياته؟ وهل جرى عليها توافق مجتمعى؟ وما موقفه من الحرية وكرامة الإنسان وسيادة القانون العادل؟

أظن أننا نعيش مرحلة غيبة السياسة والاكتفاء بالإدارة. أو أن هناك سياسة غير معلنة تمارس في الخفاء لا يعلمها أحد. ومسؤولونا لا يعلنون إلا عن محاربة الإرهاب وإنقاذ الاقتصاد، وهى أهداف لا يصدق عليها وصف «السياسات»، بل هي نشاطات حيوية تمارسها الدولة.

هناك قطاعات شعبية واسعة تبارك غيبة السياسة. هذه الفئات هي التي يحكمها الخوف من المستقبل أكثر من الأمل فيه. وتتكون هذه القطاعات الاجتماعية أساسا من:

1- الفئات التي أرهقتها ثورة يناير لأنها مست رزقها وطمأنينتها.

2- الفئات التي هددت الثورة مصالحها غير المشروعة.

3- بعض قطاعات الأقليات، التي لم تدرك أن استبداد وفساد نظامى السادات ومبارك كان هو السبب المباشر في الكوارث التي حلت بها. هي تكره السياسة لأنها تبحث عن الحماية، وهذا حقها، ومع ذلك تتبنى سياسة مضمرة بإقرار الأمر الواقع الذي يحرمها من الحماية، ولا تتحمل تكاليف إقامة مجتمع ديمقراطى ينعم فيه الجميع بالحرية والعدالة والمساواة.

4- التكنوقراط الذين يخدمون أي نظام سياسى ويبيعون فكرهم وعملهم لكل مَن يدفع.

تركيز الخطاب الرسمى على المخاطر الأمنية التي تتهدد الوطن يستنفر غريزة الخوف لدى الفئات السابقة. كلنا ندرك المخاطر الأمنية المحيطة ببلدنا، والتى يدفع خيرة أبنائنا أرواحهم لمواجهتها.

تنبأ بهذه المخاطر مبارك عندما قال: «أنا أو الفوضى». وهددنا بها مرسى بقوله: «إما أن تعلن نتيجة الانتخابات بفوزنا وإما أن تحرق مصر». عدو مصر الأول هو الإرهاب والفوضى.

السؤال هو: هل تتم محاربة الإرهاب بمعزل عن دعم شعبى وبمنطق أمنى بحت وبنفس السياسات التي أنتجت الإرهاب في السابق؟ وهل يتحقق الاستقرار بقهر الحريات والزج بالشباب المعارض إلى السجون، وبتطبيق قوانين ظالمة، وبغيبة الشفافية عند اتخاذ قرارات مصيرية، وبإحكام قبضة الأمن على كل مؤسسات الدولة؟

هنا تبرز أهمية السياسة، أي تحديد الأهداف الكبرى التي يتوافق عليها المجتمع. هناك رؤية خاطئة ومدمرة تتردد في بعض الدوائر الرسمية بأن ثورة يناير ناتجة فحسب عن القصور الشديد في أداء الأجهزة الأمنية وقتئذ، وأن تلافى هذا القصور بزيادة جرعات القمع والضربات الاستباقية من شأنه عدم تكرار ما حدث وتحقيق الاستقرار. وهذه رؤية مدمرة لمستقبل مصر. إنها تتجاهل أن أسباب الثورة هي استشراء الفساد، وتهرؤ الدولة طوال ثلاثين عاما من حكم مبارك، وقهر الحريات والتعذيب في ظل نظام الطوارئ وقبضة الأمن.

الحل إذن لا يكون بقمع مطالب الثورة وتشويهها، بل بتبنى سياسات متوافق عليها تتلافى أسبابها. يكون بالقضاء على الفساد أيا كان المستفيدون منه، وبتأمين حق المواطنين «وأغلبهم من الشباب» في صنع مستقبلهم بحرية، وبالقبول بمشاركة المجتمع المدنى في صنع المستقبل، وفى الإعلام الحر، ورقابة برلمان مستقل وقادر على أداء السلطة التنفيذية.

أتوقف أمام أمرين أعتبرهما من الكوارث السياسية غير المسبوقة. أفزع المصريين تصريح رئيس البرلمان مؤخرا بأنه سيحيل إلى لجنة القيم كل نائب يتحدث عن السياسة النقدية في وسائل الإعلام. هذا تصريح يليق برجل أمن لا برئيس برلمان.

أولا: الدستور ولائحة المجلس ينصان على حرية الرأى والتعبير. ثانيا: رئيس المجلس منفردا لا يملك الإحالة إلى لجنة القيم. ثالثا: حديثه عن مراكز الأبحاث المشبوهة التي تدرب النواب- إن لم يُلحقه ببلاغ موثق إلى النيابة العامة- يدخل في باب نشر شائعات من شأنها تكدير السلم العام. رابعا: وهناك نصوص في اللائحة تسمح بسحب الثقة من رئيس المجلس. خامسا: حديثه عن مخططات هدم الدولة حديث مكرر كحائط صد يضعه المسؤولون ضد النقد. إن عليه واجبا كمواطن في حالة علمه بوجود هذه المخططات أن يبلغ عنها فورا، وإلا يكون قد علم بوقوع جريمة أو الشروع فيها ولم يبلغ!

نتابع الرصد: رئيس لجنة الأمن القومى «الحاصل بالمناسبة على وسام الملك فيصل» جزم، في حوار صحفى، بأن جزيرتى تيران وصنافير سعوديتان، وأن البرلمان ليس من شأنه بحث هذا الأمر، لأن الحكومة قد قررت الصواب. البرلمانى البارز، رجل الأمن السابق، صادَر مسبقا على عمل اللجنة التي يرأسها، وحرمها من مباشرة مسؤوليتها الدستورية في الرقابة على الحكومة، تماما كما نهى رئيس البرلمان أعضاءه عن التعبير عن رأيهم. ما لزوم البرلمان إذن إذا كان يصادر حريات أعضائه، ويعتبر قرارات الحكومة بمنأى عن المساءلة.

كتبت في الأسبوع الماضى عن «الطريق إلى جمهورية الخوف». لم أقل إننا تحولنا فعلا إلى «جمهورية الخوف»، ولكننى حذرت من ذلك. وانتقدت منظومتنا التشريعية المناهضة للحريات. أتابع تعليقات القراء الموضوعية على ما أكتب وأسعد بها.

أدهشتنى رسالة من زميل أستاذ للرياضيات بإحدى الجامعات، وحصل على الدكتوراه من ألمانيا. لن أنشر رسالته كاملة في هذا الحيز المحدود. يقول إنه متابع لأحاديثى وكتاباتى، وإنه لاحظ أننى ضد الرئيس السيسى على طول الخط، وإننى وغيرى من كتاب وإعلاميين نهدم الوطن، وإن هذه ليست هي الديمقراطية التي شهدها في ألمانيا، حيث لا يمارَس النقد إلا من خلال البوندستاج!!. ثم اختتم رسالته بإعلان حرمانى ونظرائى من شرف المواطنة. تحاورت معه في رسائل متبادلة، وأدركت أن ما يحكمه سياسيا غريزة الخوف أكثر من إشراقات الأمل.

الحكم على الأمور بغريزة الخوف سائد، حتى لدى صفوة المثقفين ورجال الجامعة. لم أهاجم السيسى «الذى كان لى شرف التعرف عليه والحوار معه شخصيا»، ولم أهاجم مرسى، ولم أهاجم مبارك، لا يهم الأشخاص إلا بقدر ما يعملون. انتقدت بوضوح في عهد السادات ومبارك سياسة الخصخصة والفساد والتلاعب بالدستور والتمهيد للتوريث، في وقت كانت تبارك التوريث بعض المؤسسات والأحزاب الدينية. بعد الثورة عبرت عن رأيى بوضوح في سوء إدارة العملية الدستورية: بدءا من التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها، وجعل الانتخابات البرلمانية قبل الدستور، وهو ما انتهى إلى تسليم الحكم لجماعة الإخوان ووضع دستور يمهد لدولة دينية. أعلنت بوضوح انتقادى للخلط بين الدين والسياسة وسطوة الإخوان والسلفيين على عقول الفقراء. واليوم أعارض صراحة غيبة السياسة في إدارة شؤون الوطن، وإعلاء قيمة الأمن بمفهومه القمعى، وغيبة السياق السياسى في تحديد الأولويات، والتنكيل بالمحتجين ووضعهم في السجون، في حين ينعم مَن أفسدوا مصر بالحرية.

إن الذين يؤمنون بالتعددية واحترام الاختلاف وحرية الرأى والتعبير هم البناة الحقيقيون للوطن، وليسوا من أهل الشر، بل هم يريدون لوطنهم كل الخير. إنهم يدعون إلى إقامة دولة قوية الدعائم: بها تعليم جيد يتساوى الجميع في فرصه، وبها قضاء مستقل كفء عادل يتشبث بقيمه الليبرالية التي بشر بها رواده، وبها علاج لائق، وبها إعلام حر، ويحلمون بوطن به مشاركة في صنع المستقبل، يطعم فيه المواطن من جوع، ويأمن من خوف، وبه برلمان يتحاور فيه السياسيون الساعون إلى وطن أفضل ولا يُهدَّد فيه المعارضون بتهمة محاولة هدم الدولة.

وتلك هي السياسة التي يعتبرها بعضنا رذيلة.

 

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى