أعمدة

عمر طاهر | يكتب : خمس عشرة قصة قصيرة

1809912572558970508

(1)

السجن

اشتركت مع ثلاثة آخرين في جريمة قتل، وحكم علينا بالسجن لأربع سنوات، كنت مندهشًا طوال التحقيق من أنني تورطت في جريمة ما، ولكن عند إعادة تمثيلها أمام النيابة وجدتني أنا تحديدًا الذي قمت بقتل الرجل بأن كممته لمنعه من الاستغاثة.

تقبلت السجن بصدر رحب واعتبرته فرصة للاستجمام ولقضاء أيام هادئة بلا تشويش، قمت بتجهيز حقائبي، وكان ما يهمني أن أجمع أكبر قدر ممكن من الكتب والأدوية.

كانت سيارة الترحيلات في طريقها إلى السجن تمر بأحد الأسواق عقب صلاة الفجر، في السوق كنت أتابع باعة جائلين يبيعون فواكه اللحوم ويقومون برصها وهم يروجون لها بأغنيات فاحشة.

كنت شغوفًا بالتجربة ومندهشًا من أولئك الذين يخشون السجن.

في اليوم الأول صحوت واتجهت إلى ساحة صغيرة موجودة داخل مبنى كبير مليء بعشرات المساجين الواقفين يدخنون إلى جوار شباك مغلق.

اشتريت من الحارس علبة سجائر، ثم اتجهت ناحية الشباك، وأشعلت سيجارة، ثم فتحته ليدخل بعض الهواء النقي، ارتعب الحراس وهرعوا باتجاهي قائلين: إن فتح الشباك ممنوع، هنا انقبض قلبي بشدة وشعرت أن السنوات الأربع القادمة ستكون مليئة بالاكتئاب.

(2)

الحصان

ثمة كراهية مقيمة بينه وبين شقيقه بدأت عند توزيع الميراث، اتفقا على كل شيء إلا حصانًا كان الأب يجوب به شوارع البلد عصرًا، لم يكن هناك مجال لاقتسامه، وكانت هناك فرصة متاحة لأن يحتفظا به سويًّا إلا أن الأخ الأكبر أصرّ على أن يستأثر به، فهو مغرم بخيلاء الفارس، الحصان أيضًا كان يرتاح للأخ الأكبر، ويمتعض كثيرًا إذا ما اقترب منه شخص آخر، فكانت الجفوة.

كل يوم كان الأكبر يمتطى حصانه ويمر بشقيقه دون أن يتبادلا تحية، إلى أن مرض بشدة فلزم الأصغر فراش شقيقه يستحلفه بالله ألا يموت، كان الأصغر يرى في الجفوة رحمًا موصولاً بالحضور أيًّا كانت هيئته، صارح شقيقه المريض بأن وجوده كافٍ، أما الخصام فهو دليل على أن هناك شيئًا ما يجمعهما، تبادلا الأحضان وكان الصغير صادقًا حتى إنه مات في حضن شقيقه الأكبر.

أقسم الأكبر من يومها ألا يركب أي حصان حتى يموت.

(3)

سيجارة

كان الضابط المسؤول عن العملية يوجه السؤال للضحية بشكل روتيني عما إذا كان له طلب أخير، لم يحدث أن طلب أحدٌ شيئًا من قبل، هو يفهم ذلك، الشخص الذي يعرف أنه سيموت بعد ثوانٍ مات بالفعل، ربما قطع عدة كيلومترات على الطريق، لكن جسده لا يزال موجودًا بحاجة إلى من يرسله خلفه.

هذه المرة طلب صاحب البدلة الحمراء سيجارة.

كان يتابعه وهو يدخنها، بينما الحبل حول رقبته مرخي، تذكر الضابط أنه كان يطلب سيجارة دائمًا في اللحظات المهمة، لم يكن مدخنًا بطبعه، لكنها كانت تزيل بعضًا من توتره وتمنحه قليلًا من التركيز تحتاج إليه الخطوة القادمة.

تأمل صاحب البدلة الحمراء، ثم فكر الضابط أنها المرة الأولى التي يرى فيها شخصًا يأخذ الموت بهذه  الجدية.

(4)

حليم

ظللتُ طول الليل أحاول إقناع عبد الحليم أن يشتري هذا اللحن من بليغ، لكن حليم كان يراه لحنًا حزينًا أكثر مما ينبغي.

في بار شبرد كان بليغ يقسم لي أن هذه هي مشكلته مع حليم، فاللحن فرح جدًّا، صمت ثم قال: ربما كانت الكلمات نفسها بها قدر من الحزن.

كان لا بد من التدخل، طلبت من الشاعر أن يتصرف لإضفاء بهجة ما على الأغنية ففعل.

كنت سعيدًا وبليغ وحليم يجلسان في الشرفة يتدربان على الأغنية بعد تعديلها وكلهما انسجام، بينما الشاعر يميل عليَّ طالبًا مني إن حكيت القصة يومًا ألا أذكر اسمه.

(5)

الفناء

دخلت إلى بيت جدي القديم الذي كنت أحبه وضاع من العائلة في ظروف غامضة، حيث بِيعَ لرجل طيب متصوف يحب آل البيت ومشايخ الصعيد، ويحرص على حضور الليلة الكبيرة في معظم الموالد.

دخلت حجرة نوم جدتي فوجدت جسدين لشخصين أحبهما، وكان رحيلهما على التتابع صدمة قوية: خالي وخالتي.

مررت بجسديهما وأنا أحاول أن أحافظ على ثباتي في طريقي إلى شباك الغرفة الذي يطل على فناء واسع.

كان المشهد في الفناء مبهجًا للغاية، ثمة أطفال يلعبون وبعض الراهبات بزيهن المميز يبتسمن وهن يتجولن في المكان، كانت الشمس مشرقة، وكان الطقس صحوًا أشبه باللحظات التي تسبق طابور المدرسة.

التفتُّ فوجدت أمي تحاول أن تعدل من وضع خالتي، اصطدمت يد أمي بوجهها دون قصد، فصدرت عن خالتي كحة ضعيفة ثم فتحت عينيها واعتدلت في جلستها وقالت لأمي: “أنا ما موتش”، كررتها ثم خرجت من الغرفة.

خرجت خلفها إلى صالة المنزل، فوجدت معظم أفراد العائلة يملؤون المكان، وكان باديًا عليهم أنهم يحتفلون بالحدث، بينما لا أثر لخالتي في المكان كله.

(6)

مباراة

كانت المباراة مملة وبدون جمهور، لكنها كانت مباراته الأولى مع فريقه الجديد.

لم يصدق أن المدرب طلب منه الاستعداد للمشاركة في آخر عشر دقائق.

هو من بلد بعيد، والمدرجات الخالية ضاعفت غربته، وفي أول لمسة له أحرز هدفًا جميلًا، لكن أحدًا لم يهتم.

(7)

نور

دخلت إلى الحمام فرأيت مصدرين للإضاءة؛ الأول: عبارة عن بطيخة كبيرة لكنها لسبب ما سقطت فتهشمت على أرضية الحمام، والثاني: عبارة عن لمبة بـ(فيشة)، حاولت أن أشغلها ولكن السلك كان قصيرًا للغاية بحيث إنني فشلت في المهمة.

شعرت بالضعف والحيرة وقلت: يا رب، متسائلًا عما يمكنني أن أفعله في هذا الظلام الموحش.

(8)

بيوت الأعيان

أوجدتنى صدفة ما في بيت قديم واسع، تصميمه يشبه تصميم البيوت الكبيرة التي يسكنها الأعيان في الريف.

تأملت الشبابيك الطويلة الواسعة وأنا في حالة مزاجية جيدة جدًّا.

حاولت الخروج من البيت والذهاب لشراء بعض الطعام، عند باب البيت وجدت امرأة طيبة تقف مبتسمة.

كان البيت يطل على نهر هادر ماؤه رائق ويجري سريعًا، وفي الوقت نفسه كانت الأمطار تهطل بشدة.

تراجعت عن المشوار ووقفت عند الباب أتأمل المشهد.

كان بداخلي يقين أن هذا البيت لم يكن يطل على أية أنهار من قبل.

(9)

سيارة أمريكاني

لديَّ سيارة مستعملة من طراز أمريكي قديم يتسم بالحجم الكبير، أمام المنزل تقف السيارة وغطاؤها الأمامى مفتوح، أفتش عن فتحة الرادياتير لأزودها بالماء.

وصل في اللحظة نفسها الميكانيكي ومعه البواب، تابعت الأول وهو يفحص الموتور ويتأمل سلكًا مقطوعًا أو متآكلًا، سألت الميكانيكي من الذي استدعاه؟ إذ إنني لم أفعل، فقال: البواب.

كان البواب يقف بعيدًا يتشاجر بصوت عالٍ مع أحد السكان.

قال لي الميكانيكي همسًا: إن البواب كان يقود سيارتي ويبدو أنها (سخنت منه)، وأخذ يحذرني منه ويوصيني بعدم الإفراط في الإحسان إليه، وألا أترك له مفاتيح سيارتي مرة أخرى.

عندما عاد إلينا البواب عنفته على أنه استخدم السيارة دون استئذان، ففوجئت به يضع يده على كتفي بحميمية مفتعَلة لأهدأ، طلبت منه ألا يلمسني، وضع يده هذه المرة على أنفي فأزحتها بقوة وهددته بالقتل إن كررها، فاستجاب هذه المرة وانصرف وهو يتبادل السباب مع الميكانيكي.

بينما يبتعد عني كنت أفكر في ضرورة الاتفاق مع سكان العمارة على الاستغناء عن خدمات البواب، لكنني لسبب غامض كنت موقنًا أنهم سيرفضون الفكرة.

(10)

زيارة

دخلت لأنام في فراشى وقد غطيت رأسي باللحاف الثقيل تاركًا فجوة أرى من خلالها غرفتي وهي تغرق في ظلام يشقه نور خفيف قادم من الصالة، رأيت امرأة جميلة قلت لها: لقد ماتت خالتي، قالت: أعرف، وعندما دققت النظر وجدتها خالتي نفسها.

فرحت وسألتها عن أخبارها فقالت بهدوء: “الحمد لله”، سألتها إن كانت تشعر بالراحة الآن، فقالت لي: “يعني.. أحسن”، بكيت بشدة وشعرت بدموعي تبلل الغطاء، قلت لها: إنني في غاية الحزن على رحيلها، فابتسمت، ثم استأذنت لتنام في الغرفة الأخرى.

رن جرس الباب فقمت وأنا أشعر بصعوبة في الرؤية من فرط ما بكيت، نظرت من العين السحرية فرأيت صديقي المطرب الشاب، تسللت إلى المطبخ وفتشت في الثلاجة عن شيء أغير به طعم فمي قبل أن أفتح، فوجدت قطعة كبيرة من تورتة الفراولة التي تشتهر بها خالتي، فتحت وأخذت صديقي بالأحضان قائلًا له: إن زيارتي عمل لا يقوم به إلا أشخاص يتحلون بالاحترام والعظمة.

دخلنا غرفتي، ثم استأذنت لأتأكد أن خالتي قد أحكمت إغلاق باب الغرفة الأخرى حتى لا يوقظها صوت غنائنا.

(11)

عيد الميلاد

فتاة رقيقة ترتدي ملابس رياضية بيضاء اللون وتقود دراجة ملونة مبهجة، تركت دراجتها في حيازتي واختفت، فكرت كثيرًا في الهروب بالدراجة، لكنَّ شيئًا قويًّا بداخلي منعني، أرهقني الصراع بين رغبتي في سرقة الدراجة وتأنيب ضميري على شيء لم أفعله، قررت أخيرًا أن أترك الدراجة في مكانها وأنصرف.

بعد عدة خطوات وجدت أمي في محل للمشويات ترحب بضيوف لا أعرفهم، كان هناك حارس ضخم أسمر يبتسم لي، اقتربت منه بحذر، صافحته فقال لي إن والدتي تحتفل بعيد ميلادي، فقلت له: إن اليوم لا يوافق تاريخ ميلادي، فقال: لا تصدق التواريخ.

فكرت فيما قاله بينما أتابع أمي وهى تودع ضيوفها عند باب آخر للمحل، وكان بينهم الفتاة صاحبة الدراجة.

(12)

ندم

في منزل العائلة زحامٌ ما، بين الزحام فتاة يعرفها ويشتهيها، طلب منها أن يتوجها معًا إلى أحد الأركان ذات الضوء الخافت، وطلب منها ألا تحدث ضجيجًا بكعب الحذاء العالي حتى لا توقظ أهله.

تستجيب لطلبه في الخطوات الأولى لكنها تفقد السيطرة على صوت طرف كعبها المعدني في أثناء سيرها فوق أرض خشبية، انزعج بشدة من هذا الاستهتار، فحملها بعنف وفتح باب الشقة ليطردها، كانت هي تشعر بالإهانة فتشبثت به بقوة، لكنه نجح أخيرًا في التخلص منها، ثم شعر فجأة بضيق عارم عندما اكتشف أنه في أثناء تخلصه منها اضطر إلى أن يهبط معها عدة درجات من السلم.

(13)

من البلكونة

خرج رجل المغسلة وأغلق الباب الزجاجي بالمفتاح، ثم دلف إلى محل الورد الملاصق للمغسلة.

بعد قليل خرج يحمل باقة تبدو رقيقة من أعلى، معظمها من الورد الأصفر.

وقف على الرصيف لعدة دقائق نظر خلالها إلى ساعة يده أكثر من خمس مرات.

بعد قليل توقفت أمامه سيارة دون أن يهبط من يقودها، مد رجل المغسلة يده بالباقة إلى داخل السيارة، وتبادل مع قائدها بضع كلمات وهو نصف منحنٍ، في نهايتها اعتدل ثم ابتسم بشدة، تراجع نصف خطوة ورفع يده ملوِّحًا عائدًا إلى المحل، بينما السيارة تهم بمغادرة المكان.

بعد ثانيتن خرج مرة أخرى مسرعًا كأنه تذكر شيئًا مهمًّا.. شبَّ على أصابع قدميه وألقى نظرة في اتجاه السيارة.
وحدي من البلكونة كنت أرى السيارة تبتعد مسرعة.

(14)

صلاة الجماعة

جمعت كل بنات العائلة ودخلت وهن خلفي إلى أحد المساجد لأصلي بهن إمامًا، وقفت أختي الصغرى بالقرب مني، هي الأقرب بشكل يمنحني قدرًا من السعادة.

في أحد الأركان لمحت شخصًا أغلب الظن أنه (دي جيه) أمامه سماعات كبيرة ينبعث منها صوت أحمد عدوية في أغنية لا أعرفها، طلبت منه أن يغلق الصوت لأننا سنصلي، تجاهل هذا الشخص طلبي فأخبرته أنني سأحطم هذه السماعات إذا لم يغلق الصوت.. ففعل وهو متضرر.

رأيته وأنا أصلي يقترب مني على مهل، وفي أثناء السجود شعرت بيده وهو يحاول أن يسرق شيئًا ما من جيبي عقابًا على تهديدي له، أمسكت بأحد أصابعه لأكسره بينما أنا مستمر في الصلاة، ولكن أصبعه كان مرنًا للغاية وغير قابل للكسر، كان الرجل نحيلًا لكن كان من الصعب السيطرة عليه، ظللنا على هذا الوضع كثيرًا حتى أيقنت أن قوتنا متكافئة، وأن أحدًا لن ينتصر على الآخر، أرهقني الصراع فخرجت من الصلاة فانكسر أصبعه في يدي.

(15)

الشاعر

دخلت إلى مكتب الرئيس السادات أفتش بين أوراقه عن شيء يدينه، كنت أفعل ذلك بمساعدة مدير مكتبه الواقع في علاقة آثمة بمطربة شعبية، كان مدير المكتب متوترًا ويطالبنى كل دقيقة بسرعة إنهاء مهمتى.

قبل أن أنصرف يائسًا من فشل المهمة وجدت بين أوراق السادات وثيقة عبارة عن خطة لاغتيال صلاح جاهين، لم أتمكن من فحصها بدقة، لكنها كانت تضم سيرة ذاتية مفصلة لجاهين وملفًّا به أشعاره الممنوعة من النشر، وقائمة بأسماء بعض الشخصيات عرفت فيما بعد أنها شخصيات كاريكاتورية من اختراع الشاعر.

هرعت إلى العنوان الذى وجدته بين الأوراق لألفت انتباه الشاعر تجاه ما يحاك ضده. كانت الشوارع مزدحمة، وكنت أصارع الوقت قبل أن أصل فأجده مقتولاً أو معلقًا بحبل في السقف بما يعطى انطباعًا للعالم أنه قد انتحر، كنت أفكر طول الطريق ولم أصل إلى إجابة مقنعة.. هل الانتحار عمل جبان أم أنه الشجاعة بعينها؟

طرقت الباب ففتح جاهين، اندهش من وجودى، مرت من خلفه امرأة كان باديًا أنها تتنصت على حوارنا وكنت أعرف أنها ليست زوجته. ارتبك ولمحت في عينيه حزنًا ما، أخبرته بالمخطط، شكرنى ثم طلب منى ألا يعرف أحدٌ أننى رأيته هنا.

قبل أن أنصرف سألنى إن كنت أعتقد أن السادات جاد في مخططه، فقلت له: في كل الأحوال عليك أن تقطع علاقتك بهذه المرأة.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى