أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب : الثورة ما زالت تهتف

056f0c9942d0b25288b8ba0fb7e3bb02_123628275_147

هذا كتاب مدهش، ما أن تقرأ منه بضع صفحات حتى تتخلّى الحروف عن صمتها، تتجسد الكلمات وتوقظ داخلك الأصوات التي نسيتها، تذيب صمت المخاوف، وتبدد ضباب الاستكانة، وتعود نشوة الثورة التي خمدت للتوهُّج، إنه كتاب “هتافات الثورة المصرية”، من تأليف الباحث الدكتور كمال مغيث، وهو حصيلة مدهشة لأيام الصمود في ميدان التحرير، قضاها الباحث مشاركًا وصارخًا وشاهدًا على أهم تجربة في نبل البشر وإيثار الذات التي قدمها الشعب المصري، كان الهتاف هو غذاء الروح للملايين الذي احتشد بهم الميدان، وسلاحهم الوحيد الذي استطاع أن يجتاح الشوارع المصرية، أن يعلو أسوار قصر الحكم ويزحزح الفرعون عن عرشه، لقد بعث الفلاح الفصيح بعد أن ألهبت السياط ظهره العادي، ولم يكن يملك إلا حنجرته، وبفضل هذه الحنجرة تواصل هذا الهتاف على مدى 18 يومًا، تحوّلت فورة الحماس التي لم تكن تدوم إلا لحظات إلى فعل دائم، ولا بد أن صدى الصوت قد تم تخزينه في أسفلت الميدان، فقد ظلت الأرض قلقة وما زالت كذلك حتى الآن، ورغم التحسينات وطلاء الجدران فإن آثار الثورة موجودة مطموسة ولكن باقية.

سألت المؤلف كمال مغيث عن السبب الذي جعله يهتم بتأريخ هذا الجانب الخفي من ثورة 25 يناير، الفعل الذي لم ينتبه إليه أحد، فالهتاف فعل عابر سرعان ما يتبدد، لكنه عرف كيف يحفظ لنا أثرًا نفيسًا من آثار ثورة يحاول الجميع طمسها، يقول إنه بجانب اهتمامه بالمأثورات الشعبية، وحبه للموسيقى التي تنبعث من إيقاع الكلمات، ولكن كان هناك سبب أكثر أهمية، فقد كان المؤلف واحدًا من ملايين المصريين الذين رابطوا في ميدان التحرير، واحدًا من صناع هذه الهتافات، في ذلك الوقت كانت ابنتاه تدرسان خارج مصر، واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، وكانتا هما أيضًا مرابطتين أمام أجهزة الكمبيوتر، تتابعان أخبار الثورة لحظة بلحظة دون نوم أو راحة، ولكن الأخبار في الأيام الأولى لم تكن مطمئنة، وبعد أن قطعت السلطة خطوط الاتصال استغلت قوى النظام الإلكترونية الفرصة كي تبث أخبارًا حول هزيمة الثورة وانسحاب المتظاهرين من الميدان، وكان تأثير هذه الأخبار صاعقًا على كل مَن في الخارج، وحتى يخرج الأب ابنتيه من حالة الإحباط والبلبلة بدأ يرسل إليهما شهادته الخاصة، رسائل يومية حول الوقائع التي يشهدها الميدان، توق الثوار وعنف السلطة ومحاولات الشرطة اختراق الصفوف، استخدام النظام وأعوانه كل وسائل القمع، بدءًا من القناصة حتى الاستعانة بالخيول والجمال، يحدثهما عن الوجوه الجميلة للشهداء الذين رفضوا المغادرة وماتوا في أماكنهم، عن أعداد الجماهير التي تتزايد كل يوم وهم يفِدون من محافظات مصر المختلفة ليقفوا طوال النهار ويناموا في العراء طوال الليل، وكان حريصًا في كل رسالة أن يرسل إليهما كل صيحات الثورة وما يستجد فيها من هتافات، وكانت حصيلة هذه الرسائل رائعة، فقد احتوت على جانب من التاريخ الحي للثورة، إضافة إلى هتافاتها التي لا تخفت، ومن هنا ولدت فكرة الكتاب.
ولكن هذا الكتاب الغريب يوضح جانبًا آخر، فلم يكن الهتاف وقفًا على الميدان، ولا على أيام الثورة القريبة، ولكن التاريخ المصري كله كان زمنًا متصلاً من الهتاف والشكوى والاستجارة، فمصر لم تعرف الحكم الصالح إلا لفترات قصيرة في تاريخها الممتد، ومنذ أن اخترق النهر رمالها من منبع مجهول، فقد استمد حكامها سلطتهم من جذور أسطورية مجهولة أيضًا، فكانوا طغاة متجبرين، وكانوا في معظمهم لصوصًا مثل مبارك، وربما أسوأ منه، كانوا كلهم مولعين بسرقة الثروات المصرية وتكديسها، ولم تكن هناك بنوك يهربون إليها الأموال في ذلك الزمن، لذلك كانوا يخزنونها في مقابرهم على أمل الانتفاع منها في العالم الآخر، ولعل أقدم هتاف حفظه لنا التاريخ هو شكاوى الفلاح الفصيح، كان هتافًا فرديًّا ضد الظلم، لم يلفت نظرنا فيه غير فصاحة الفلاح، لم ندرك أن أثرياء هذا الزمن البعيد كانوا يشبهون في أفعالهم أثرياء زمننا، يستولون على ما ليس لهم، وأن السلطة تقف دائمًا في صفهم وتمالئهم، فقد قام الوزير الأكبر بجلد الفلاح لعلّه يرجع عن شكاواه، ولكن الفلاح صبر على الجلد وظل يجأر بالشكوى، وقد تواتر على مصر كل صنوف الحكام، من كل أجناس الأرض، حتى المغول جاء منها مملوك حكمها ردحًا من السنين، وفي ظل عجز المصريين عن مقاومة قسوة الحكام، وخنوعهم الذي أثار حنق الكثيرين مثل جمال حمدان، لجؤوا إلى كل أنواع الاحتجاجات اللفظية، فأنشدوا الأغاني وضربوا الأمثال، وخلعوا عليهم الألقاب المضحكة، وتداولوا النكت السياسية التي تسخر منهم، وحتى هذا تم عقابهم عليه، وفي ظل الحكم العثماني الذي طال وأأخرج مصر من دائرة التاريخ، كان المصريون يهتفون: “يا رب يا متجلي، اهلك لنا العثمانلي”، ولكن يبدو أن الله لم يكن رؤوفًا بالمصريين، فقد أخرج العثمانيين ليأتي بالفرنسيس، وهتف الناس: “ملعون أبوك فرط الرمان لما تنادي بالأمان”، وخلصنا الله من الفرنسيس حتى يأتي الإنجليز، وهتف الناس: يا عزيز يا عزيز، كُبة تاخد الإنجليز”، ولكن هذه الكبة لم تأتِ إلا بعد ثمانين عامًا من الاحتلال، وبعد ذلك تجيء مرحلة الحكم الوطني، حيث حكم البلد أناس من أهلها، ولكنهم لم يكونوا بأحسن حال من المحتل الأجنبي، وتواصلت في ظلهم المعاناة ولم تتوقف الهتافات، الحكم الوطني كان عدوًّا مستترًا، ظلم ونهب تحت ظل الدولة الوطنية، وتحت شعارات التنمية والتقدم والسعي للديمقراطية، كان معظم الحكام الوطنيين أبعد ما يكونون عن تحقيق هذه الشعارات، وقد أربكونا وخدعونا فلم نستطع أن نصنفهم وأن نضعهم في خانة الأعداء، لأنهم كانوا جزءًا منّا، وجوههم تشبه وجوهنا، ولكنه في أعماقهم لم يكونوا كذلك، كانوا أعداء حقيقيين، عاملونا على أننا فريسة سهلة لهم، وحرصوا على إبقائنا فقراء وغير متعلمين، وهذا هو جزء من المعجزة التي شهدها ميدان التحرير، لقد اكتشفنا مرارة خدعة الحكم الوطني أخيرًا.
جاء البعث من ميدان التحرير، حين صرخت ملايين الحناجر بهتاف واحد، بسيط ومؤثر “ارحل”، أكثر الكلمات التي ترددت تحت سماء مصر في السنوات الأخيرة، قيلت لمبارك العجوز الذي تظاهر بالصمم ولم يعرف أنه لا مفر من الرحيل، وقيلت لأعضاء المجلس العسكري الذي هرموا على مقاعدهم فلم يشهدوا معركة ولم يحققوا نصرًا، وقيلت للرئيس الإخواني وجماعته الذين كانوا أشبه بعصابة استولت على مصر الغنيمة في غفلة من التاريخ، وما زالت الكلمة واقفة في الحناجر.
يعتبر كمال مغيث أن الهتاف هو النضال الشعبي الأبرز، لأن منتجيه هم الناس، وهو تعبير عن همهم المشترك، وهو ليس شكوى مجردة، ولكنه أكثر من ذلك، إنه تعبير عن آلام الناس وأحلامهم وطموحاتهم وإعلانهم التحدّي والاستعداد للتضحية بالنفس، كل هذا يبدو صحيحًا ومنطقيًّا، ولكن الهتاف كما أراه هو وقفة مفاجئة مع الذات، فالمصريون لا ينقصهم التاريخ، فهو أطول مما ينبغي وأكثر مما يطيقه أي شعب، لذا فالثورة هي نقطة انقطاع، خروج عن الرتابة، خروج عن النظرة الضيقة والنهج الثابت، والهتاف هو إعلان عن الرغبة في هذا الخروج عن المألوف، ربما نصنع لأنفسنا تاريخًا جديدًا ومصيرًا أفضل، وفي النهاية لا أملك إلا أن أوجه التحية إلى المؤلف مرتين، مرة من أجل هذا الكتاب الممتع، ومرة لأنه وضع طاقته من أجل التأريخ لجانب من هذه الثورة المغدورة.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى