أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب : بيل كوسبي.. راسبوتين في أمريكا

محمد المنسي قنديل
لا أدري لماذا تلح عليّ هذه الواقعة للكتابة عنها؟ ربما كانت نوعًا نوع من الهروب من الواقع السياسي المضطرب. ومهما كتبنا حوله يزداد اضطرابا، أو ربما الدهشة من هؤلاء النجوم الذين نتبعهم ثم نكتشف فسادهم من الداخل، والاستغراب من أن التاريخ يعيد نفسه فتظهر شخصية راسبوتين الراهب الروسي مستعبد النساء، من جديد، وكذا من تصرفات المرأة التي لا تنضج أبدًا ،كما يقول الفيلسوف شوبنهور، والتي تنجذب دائما إلى أضواء الشهرة حتى ولو احترقت أجنحتها.

يلفت نظري صورة لنسوة يرتدين السواد، يجلسن على المقاعد في صفين، أعمارهن مختلفة، وملامحهن متباينة، 46 امرأة جلسن أمام عدسات التصوير حتى يتصدرن غلاف مجلة “نيويورك”، لا يشتركن إلا في شيء واحد، أنهن يروين الرواية نفسها ويتهمن الرجل نفسه، إنها أكبر فضيحة جنسية شهدتها أمريكا وربما العالم مؤخرًا، الشهود فيها 46 امرأة، والمتهم رجل واحد هو الممثل الشهير بيل كوسبي، هل يذكره أحد من الأجيال الحديثة؟

إنه الممثل الزنجي طويل القامة الذي تحوّل إلى أيقونة للسود ورمز لحياتهم العائلية، ونزوعهم إلى المثالية، فنان متعدد المواهب، مؤلف كوميدي، وموسيقي ومنتج تليفزيوني وناشط في حقوق الإنسان، ظفر بلقب (أبو العائلة أو “أمريكان داد”) فبعد أن مثّل العديد من الأفلام اتجه إلى الدراما التليفزيونية التي تناقش مشكلات الأسرة، وكان ينتج مسلسلا أسبوعيا يحمل اسمه، يناقش فيه القضايا التي يواجهها الآباء والأمهات، سواء كانوا سودًا أو بيضًا، وأذيع هذا المسلسل في كل تليفزيونات العالم، كما أنه تبنى العديد من الأطعمة والمنتجات الصناعية، وكان وجود صورته عليها كافيًا لرواجها، وساعدته ملامح الطيبة التي تظهر على وجهه للاقتراب من عالم الأطفال، وقدم معهم برنامجا يحتوي على حوارات المرحة، وقد اقتبس/ أخذ، فكرته الفنان أحمد حلمي وقدم برنامجا مماثلا كان سببًا في شهرته، وأخيرًا فالسيد كوسبي حاصل على الدكتوراه من جامعة ماساشوستس، هذا الرجل الشديد المثالية أصبح متورطًا في قضية خداع واغتصاب عشرات النسوة، ورغم ذلك فإن عقاب القانون ما زال عاجزًا عن أن يطوله حتى الآن على الأقل.

523637160911733114
قضية كوسبي تثير الكثير من المعضلات القانونية، ويستغل محاموه مواد القانون نفسه لإعاقة تقديمه للمحاكمة، ولكن بعد تردد طويل أصدر النائب العام في بنسلفانيا أمرًا بإيقاف كوسبي بتهمة اغتصاب واحدة تعود إلى عام 2004، المرأة التي تجرأت وأقامت الدعوى ضده، هي أندريا كونستاند، وهي مشرفة على فريق كرة السلة في جامعة “تمبل” التي تخرج فيها كوسبي ويشغل منصب أحد الأمناء بها، وقد ربطت بينهما الصداقة، رغم فارق السن بينهما، فهي في الأربعين من عمرها، بينما كان هو فوق السبعين.

وتقول في شهادتها إنها اعتادت أن تقوم بزيارته في بيته، وفي إحدى ليالي يناير عام 2004 كانت تشكو له من الإجهاد بسبب العمل طوال اليوم، فأعطاها ثلاث حبات زرقاء، مؤكدًا لها أنها مهدئة للأعصاب ولا يوجد  ضرر بها، ولكنها ما إن تناولتها حتى بدأت تفقد الإحساس بجسدها كله، وقام كوسبي بنقلها إلى إحدى الأرائك لتتمدد عليها، وهناك مارس معها الجنس وهي نصف مستيقظة دون أن تستطيع دفعه، وعندما أفاقت أخيرًا وجدت نفسها عارية وثيابها بعيدة عنها، الطريف أن الممثل لم ينكر أنه مارس الجنس معها، ولكنه قال إن هذا تم بإرادتها، وكانت قد تأخرت في تقديم شكواها بحيث لم تعد هناك أدلة يمكن الحصول عليها من رحمها، لم يكن هناك شاهد يؤيد أيًّا منهما، وبذلك لم تعد هناك سوى كلمتها في مواجهة كلمته، ولم يكن هناك مبرر قانوني لرفع أي قضية، ولكن لحسن حظها لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد قررت أكثر من امرأة أن تشق غلاف الصمت الذي فرضته حول نفسها، تقدمت العشرات منهن ليعلنّ أن كوسبي قد اغتصبهن بنفس الطريقة.

قالت إحداهن إنه أعطاها مخدرًا يدعى “كوالودس Quaaludes” حتى يضعف من مقاومتها ثم قام بممارسة الجنس معهما رغمًا عنها.

الرواية ذاتها رددتها تشكيلة متنوعة من النساء، ممثلات صاعدات يبحثن عن الشهرة، نساء يشاركنه في برامجه العائلية، وأمهات يردن ظهور أبنائهن على الشاشة، عارضات أزياء، ومغنيات أقنعهن بأن جودة أصواتهن لن تتأتى دون ممارسة الجنس، كل هذه القصص لم يُكشف عنها في وقتها، لم يتم الإبلاغ عنها، ولكنها لم تُنس، بعضهن لم يجرؤ على التقدم بأي شكوى، وأخريات خِفْنَ من تهديدات المحامين التابعين لكوسبي ورضين بالتعويضات المادية التي دُفعت، كونستاند نفسها لم تبلغ عن الواقعة إلا بعد عام كامل، وبعد أن قبلت تعويضات مالية من كوسبي، والنتيجة أن الجرائم قد تقادمت، ولم تعد صالحة للتقاضي حتى ظهرت قضية السيدة أندريا لاعبة السلة.
المشكلة في شكايا كل هاتي النسوة أنها تعتبر “أفعالا سيئة سابقة”، وهي تخضع في ولاية بنسلفانيا للقاعدة 44 من القانون، وهي تمنع المدعي العام من تقديم أدلة قديمة يمكن أن تسيء إلى الشخص أو تشوه سمعته، فحتى لص البنوك، لا يمكن أن تشوه سمعته في المحكمة بتهمة قديمة كقيادة السيارة وهو مخمور على سبيل المثال، ولكن شهادات النسوة تكاثرت، بحيث لم يعد من الممكن تجاهلها، وعادت القضية لواجهة الأحداث بعد أن وجّه أحد الممثلين الزنوج الذين يؤدون فقرات “الاستاند كوميدي” انتقادًا لاذعًا “للعم كوسبي” واعتبره متحرشًا وذئبًا عجوزًا، وكانت هذه المرة الأولى الذي يوجه فيها أحد السود انتقادًا لاذعًا لأيقونة السود الأمريكيين، وبذلك رفع الحرج عن سلطات الولاية التي كانت تتخوف من اتهامها باضطهاد واحد من أشهر النجوم السود، ولم يعد من الممكن التغاضي عن الشكايا التي لا تتوقف، وكما صرح أحد المحلفين: “لا يمكن أن تكون كل هاتي النساء كاذبات، وليس من الشرف أن نترك هذا الرجل يفلت بفعلته لمجرد إجراءات شكلية”، خاصة أن كوسبي قد قام بحركة مضادة عندما استأجر ستة من المخبرين الخصوصيين ليراقبوا كل النسوة الشاكيات ليثبت أنهن سيئات السمعة وأنهن قد أغوَيْنَه قبل أن يغويهن.
تصاعدت الضغوط لمحاكمة كوسبي، وطالب بعض نواب الكونجرس بسحب وسام الحرية منه، وحطمت النجمة التي تحتوي آثار أقدامه في شوارع هوليوود، تهاوت الأيقونة وظهر فسادها، ولم يجد المدعي العام بُدًّا من إصدار الأمر بتوقيف النجم الكبير، وسوف يتغير كل شيء إذا قبل القاضي ادعاءات النسوة السابقة، لأن المحلفين يعتبرونها دليلا قويا، وتم تقديمه للمحاكمة الابتدائية، والإفراج عنه بكفالة قدرها مليون دولار، ويستعد الجميع لمحاكمة أخرى من محاكمات القرن.

تُرى كم من الأصنام حولنا لم ينكشف أمرها حتى الآن؟ ما كم الفساد الذي يمكن أن تحدثه شخصية واحدة إذا تمتعت ببعض الشهرة والنفوذ؟

أليس من المحتم علينا أن نفحص كل أنواع الأيقونات التي تحيط بنا مهما كانت درجة المثالية التي تبدو عليها؟

 المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى